سأُصْبِحُكَ سيّدي القارئ الكريم هذا الصُّبح بحديث عن أهل الخير بدل الحديث عن أهل القبح، وما أكثرهم عبر التاريخ.. سأذكِّركَ ونحن نتحدّث عن التراث بشخصيتين لامعتين في تاريخ الإنسانية، لا تسمع لهما ذكرًا ولا تتابِع عنهما حديثًا، ولا تروَّج بشأنهما كتبٌ، ولا تُنْجَز لحياتهما شرائِطُ تلفزية، ولا تقام لهما محاضراتٌ أو مواسم ثقافية.. فمن هما هاتان الشخصيتان اللاّمعتان، هيهات أن يبلغ أحدٌ مقامهما عند الله عزّ وجلّ، وحسْبِيَ أن أظْفر بأجر وأنا أذكّر بهما في عصر التفاهات، والملاهي، واللّهو، وقد غشّاهما دخّانُ الحفلات، وصخَبُ المهرجانات (جمْعُ مهرجان، وهي لفظة فارسية معناها فرحُ النفس)؛ وسأستهلّ حديثي بالكلام عن المعلمة الأولى وهي [أبو ذرٍّ الغفاري] رضي الله عنه؛ ثم أُتبِعُ ذلك بالحديث عن [الأب بيير] رحمه الله؛ وهذا راهبٌ مسيحيٌ، وذلك صحابيٌ جليل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونحن سنحتفي بعد أيام بعيد مولده الشريف، وهو عيد عِبَر، ومفاخر لا تُنكَر..
فمن هو ذلك الرجلُ المتواضع، قصيرُ القامة، عاليُ الهامة والهمّة، نحيلُ الجسم، بسيط المأكل، والمشرب، والملبس؟ كان (غنيًا) لا بل (ثريًا) بحيث كانت له بغْلةٌ يركبها، ومعزةٌ يحلبها، وخيمةٌ من قماش متنقّلة يسْكنها، وفيها مات منفيًا، وحيدًا ينْقصه حتى الكفَنُ في صحراء [الرَّبدَة].. أيُّ رجل هذا؛ وأيُّ صحابيٍ هذا؛ وأيُّ إيمانٍ هذا؛ وكيف سأُوفّيه حقّهُ ولو بالقلم؛ فما أحوجنا لأمثاله لمحاربة الفقر، والعناية بالفقراء في زمن التبذير، والبخل، والجشع، والكذب، والبحث عن المناصب، والمكاسب، في هذه الدنيا الغرّارة، لا؛ بل الضَّرارة، لكنْ لا أحد يحْذر ضررها أو يتجنّب مرارتَها.. [أبو ذرّ الغِفاري] رضي الله عنه، لا يسبقه في الترتيب إلاّ صحابيان اثنان، وهما [مصْعَب بن عُميْر] رضي الله عنه، لأنه استُشْهِد في [أُحُد] وهو شابٌّ، وفقير، لأن أمّه الغنية منعتْه أموالها عندما أسلم؛ كان يحمل اللِّواءَ وهو يحارب، فقُطِعَتْ يدُهُ، فحمل اللّواءَ باليد الأخرى فقُطِعَتْ، فحمله بأسنانه، فطُعِن بحربة قاتلة في بطنه، وكان يقول: [وما محمّدٌ إلاّ رسولٌ قد خلتْ من قبله الرّسُل]؛ هذه الآية سينزل الوحيُ في ما بعد يردِّدها، ويكمِّلها، وأصبحت قرآنًا يُتْلى: اُنظرْ (أسباب النزول)؛ لهذا تبوَّأ [مُصْعَب] المرتبةَ الأولى بلا منازع، وقد بكاه رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم بدموع دافئة.. أمّا المرتبة الثانية، فعادتْ إلى [سلمان الفارسي] إنّ النبي الكريم قال في حقّه: [سَلمان منَّا آل البيت]؛ سئِل ذات يوم: [يا سلمان، ما الذي يُبْغِضُ الإمارة إلى نفسك؟]؛ فأجاب: [حلاوةُ رضاعِها، ومرارةُ فطامها]؛ هذا هو التراث المجيد الذي يُخْفونه عنك سيّدي القارئ الكريم، ولا يحدّثونكَ به أبدًا؛ ولكنّي سأحدثكَ به تشريفًا لكَ..
أما الرتبة الثالثة فنالها [أبو ذَرٍّ الغِفاري] عن جدارة واستحقاق؛ قطع الفيافي، والصّحاري، والقفار، لـمّا سمع الناسَ يتحدّثون عن نبيٍّ، فاسترق السمعَ حتى جمع نثارات الحديث هنا وهناك، ما دلّه على [محمّد] وعلى المكان الذي يستطيع أن يراه فيه؛ فلو علم أهلُ [مكّة] أنه جاء يبحث عن [محمّد] عليه الصلاةُ والسلام، لفتكوا به.. وفي صبيحة يومٍ، ذهب إلى هناك، فوجد الرسولَ الكريمَ جالسًا وحده، فاقترب منه وقال: [نعمتَ صباحًا يا أخا العرب]؛ فأجاب الرسولُ: [وعليكَ السلامُ يا أخاه]؛ قال [أبو ذرّ]: [أنْشِدْني ممّا تقول]؛ فأجاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: [ما هو بشعْرٍ فأُنشدك، ولكنّه قرآنٌ كريم]؛ قال [أبو ذَرٍّ]: [اِقْرأْ عليَّ]، فقرأ النبيُّ الكريم، و[أبو ذَرٍّ] يُصْغي؛ ولم يَمْضِ من الوقت غير قليل، حتى هتف [أبو ذَرٍّ]: [أشهد ألاّ إلاهَ إلاّ الله، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه].. سأله النبيُ: [مِمَّن أنتَ يا أخا العرب؟]؛ فأجاب [أبو ذَرٍّ]: [مِن غِفَار يا رسولَ الله]؛ وتألّقَتْ ابتسامةٌ واسعةٌ على فم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، واكتسى وجهَه بالدّهشة والعجب، وضحك [أبو ذَرٍّ] وعلم سرَّ دهشة النبي الكريم، لأن قبيلةَ [غِفَار] لها شأوٌ وشهرةٌ في قطْع الطريق، وبذلك عُرِفتْ؛ فأهلُها مضرب الأمثال في القتل، والسطو غيْر المشروع؛ إنهم حلفاءُ الليل، والظلام، والويل لمن يسلِّمه الليلُ إلى واحدٍ من قبيلة [غِفار]؛ لقد كان [أبو ذرّ الغِفاري] أحدَ الذين شاء لهمُ الله الهدى، وأراد بهم الخيرَ.. كان ترتيبه في من أسلموا الخامس أو السادس والله أعلم..
كان [أبو ذر الغفاري] ذا طبيعة متمرّدة جيّاشة؛ كان له أن يصْمتَ بعد إسلامه، لكنّه دخل (المسجدَ الحرام) ونادى بأعلى صوته [أشهد ألاّ إلاهَ إلاّ الله وأشهد أن محمدًا رسولُ الله]، صيحةٌ بالإسلام تحدَّتْ كبرياءَ (قُريش)، وقرعتْ أسماعَهم، فضربوه حتى صرعوه، فأنقذه [العبّاسُ] عمُّ النبي بعدما أخبر (قريشًا) أنّ الرجلَ من قبيلة [غِفار] إنْ يحرِّض عليكم قومَه، قطعوا على قوافلكم الطريق؛ فنجحت الحيلةُ وتركوه.. يعود [أبو ذَرٍّ] إلى قومه، فيحدّثهم عن النبي الكريم، فأوقد فيها مصابيحَه حتى دخلتْ قبليةُ [غفار] كلِّها في الإسلام.. ولسوف يحمل صدرُه، ويحملُ تاريخُه، وتراثُه أرفعَ الأوسمة، وأكثرها جلالاً وعزّةً؛ ولسوف تَفْنى القرونُ، والأجيالُ، والناس يردّدون رأيَ النبي الكريم في [أبي ذَرٍّ]؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حقه: [ما أقلّتِ الغَبْراء، ولا أظلّتِ الخضراءُ، أصْدق لهجةٍ من لهجة (أبي ذرّ).. وغدًا سوف نستعرض مواقفَه، ومناقبَه، ودفاعَه عن الفقراء رضي الله عنه وأرضاه..