بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
العملية العسكرية التي جرت أحداثها في بلدة خزاعة شرق مدينة خانيونس بقطاع غزة، والتي أدت إلى استشهاد سبعة مقاومين، من بينهم القائد الميداني في كتائب الشهيد عز الدين القسام نور الدين بركة، ومقتل ضابطٍ إسرائيلي رفيع المستوي سري المهمات خطير العمليات برتبة مقدم، وإصابة آخر من أعضاء فريقه الخاص بجراحٍ وصفت بأنها خطيرة.
أدى انكشاف العملية إلى فشلها، وربما تعطيل برنامجها ووقف نشاطها، فضلاً عما ألحقه مقتل قائد العملية من حزنٍ وأسى لدى القيادة الإسرائيلية على مختلف المستويات القيادية، كونهم يعرفون أهمية هذا الضابط، وأدواره الأمنية الكثيرة والخطيرة خلف خطوط النار، حيث قالت عنه رئيسة الحكومة الإسرائيلية الأسبق تسيفني ليفني "إن إسرائيل مدينةٌ له"، ولعل التعتيم الشديد على مراسم الدفن والجنازة، والامتناع عن نشر تفاصيل شخصية متعلقة به، تدل على قيمة الضابط وأهميته، ومدى الحسرة التي لحقت بفريقه الخاص ووحدة النخبة التي ينتمي إليها، والإحباط العام الذي كسا وجوه قادة أركان حرب العدو ورئيس حكومتهم الذي قطع زيارته إلى باريس وعاد على عجلٍ إلى فلسطين المحتلة.
إلا أن العملية إلى جانب نجاحها والنتائج الإيجابية التي حققتها، والتي رفعت من الروح المعنوية للمقاومة والشعب، فقد كشفت عن جوانب مهمة خاصة بالمقاومة الفلسطينية، غير تلك المتعلقة بالقدرة والكفاءة، والخبرة والدراية، والقوة والمهارة، فهذه المزايا بات يعترف بها العدو ويعاني منها، إذ ذاق مرارتها، وأدرك قدرتها، وأخذ يشعر عندما تقاتله أنه يواجه جنوداً نظاميين، أصحاب خبرة وكفاءة، وعلى درجة عاليةٍ من التدريب والتأهيل، يعرفون الميدان، ويبدعون في الحركة فيه والتعامل معه.
معلومٌ أن العملية التي فشل العدو في تنفيذها كانت سريةً جداً، ولم يكشف النقاب عنها، وقد أخذ الفريق المكلف والجهات المشرفة كافة الاحتياطات المطلوبة للحفاظ على سرية العملية وضمان نجاح المهمة، فاستخدموا سيارةً تحمل لوحات سير غزة، ولم يظهر عليها أنها سيارة عسكرية، أو ذات مهامٍ أمنيةٍ، ولم تواكبها قوات عسكرية، ولم تحلق في سماء المنطقة طائراتُ استطلاعٍ ذاتية أو هيلوكبتر، وحرص ضابط المجموعة على أن تتحرك السيارة بصورة عادية في شوارع المنطقة، فلا تلفت الأنظار، ولا يصدر عنها ما يثير انتباه الرصد أو السكان، فضلاً عن أن الأجواء السياسية التي سادت ليلة العملية كانت مطمئنة، حيث طغت أجواء التهدئة في المنطقة على كلمات رئيس حكومة العدو نتنياهو ووزير حربه ليبرمان.
رغم هذه السرية التامة، والحذر الشديد، والاحتياطات الكبيرة، إلا أن المواطنين الفلسطينيين في المنطقة قد انتبهوا إلى السيارة، وأثار فضولَهم مكوثُها لدقائق وإن كانت معدودة بالقرب من بيت أحد قادة المقاومة الميدانيين، فواصل بعضهم مراقبتها، ولم تغب وركابها عن عيونهم، في الوقت الذي أسرع آخرون لتبليغ رصد المقاومة، الذين ينتشرون في كل مكانٍ، وينتبهون لكل شيءٍ، ولا يهملون أي ملاحظة، ويلاحقون كل غريبٍ، ويرصدون كل مشتبهٍ به، ولكنهم يعتمدون إلى جانب قدراتهم وخبراتهم، على الشعب الذي نما حسه الأمني، وبات حساساً إلى درجةٍ كبيرةٍ لكل ما هو غريب ومشبوه، حيث تثيرهم الوجوه الغريبة والسيارات المجهولة، والمكوث المريب في أماكن حساسة، والحركة المضطربة واللافتة للانتباه.
عملية خانيونس كشفت عن هذا الجانب المهم من اليقظة الشعبية، والحس الأمني المرهف لدى المواطنين، الأمر الذي يجعل من الشعب كله عيوناً مفتوحةً، وأجهزة رصدٍ يقظة، ومقاومين إيجابيين يحمون ظهور المرابطين، ويقفون إلى جانب المقاتلين، يحرسون بيوتهم، ويحفظون أسرارهم، ويحمون مواقعهم، ويداهمون قبل وصول القوى المختصة الأماكن المشبوهة، ويقيدون حركة المشتبه بهم وقد يعتقلونهم ويسلمونهم إلى الأجهزة المختصة، وهم يقومون بهذه المهام من تلقاء أنفسهم، دون توجيهٍ من قيادة، أو أملاً في مكافئةٍ وجائزة، أو بحثاً عن عملٍ أو وظيفة، وإنما يعتبرون ما يقومون به رصدٍ ومراقبة، مساهمة في أعمال المقاومة، ورسالةً إلى العدو معلنة ومفتوحة، أننا مع المقاومة نؤيدها ونساندها، ونعمل معها وإلى جانبها، ونسهر من أجلها، ونفتح عيوننا وتصغي آذاننا حمايةً لها وحرصاً عليها.
أما الجانب الآخر الهام الذي كشفت عنه عملية خانيونس الأمنية الإسرائيلية الفاشلة، فهو جاهزية المقاومة واستعداد رجالها، وانتشارها الواسع والكبير، وحضورها اللافت في كل مكانٍ، فهم لا ينشغلون بالرباط على الحدود، أو السهر على الثغور، ولا يراقبون الحدود ويرصدون الأسلاك الشائكة فقط، ولا ينشغلون بالتدريب في المعسكرات.
إنما إلى جانب ذلك يجوبون الشوارع والطرق، ويتواجدون في البلدات والمدن، يلبسون زيهم العسكري، ويحملون سلاحهم ويتأهبون لكل مفاجئة، ويرتبطون بوحداتهم ويتواصلون بسرعة مع مراكزهم، الأمر الذي مكنهم من سرعة الوصول إلى السيارة والتعامل الفاعل معها، والنجاح في استهداف قائدها ومن معه، ولولا الطائرات التي حضرت، وأسورة النيران التي فرضت، لما تمكن بقية الفريق الإسرائيلي من السلامة بنفسه والنجاة بحياته، إذ أمَّن طيران العدو لهم بكثافةٍ ناريةٍ وعلى مستوى منخفضٍ جداً، الطريق لتجاوز الحدود والعودة إلى الجانب الآخر.
عملية خانيونس بها نفخر ونعتز، ونتيه بها ونزهو، أننا كنا معاً جنباً إلى جنبٍ، شعباً ومقاومة، مواطنين ومقاتلين، نخوض جميعاً غمار حربٍ معلنةٍ وسريةٍ مع العدو، بالعين والأذن، وبالبندقية والحجر، وبالإرادة الصادقة والسلاح والفتاك، لتكون للعدو رسالةً صريحةً مدويةً، أن هذه العملية هي مثال الحرب ونموذج القتال القادم، التي إن فكر بها وغامر، فإن بعضاً من جنوده لن يعودوا، والكثير من قادته سيحاسبون وسيقالون أو يستقيلون، إذ سيهزمون أمام الثنائية الذهبية، الشعب والمقاومة، والتي نأمل أن تكون ثلاثية ذهبية عظيمةً، الشعب والسلطة والمقاومة، وماسيةً أعظم عندما تكون الأمة العربية والإسلامية هي رابعتها الحاضنة الدافئة، والراعية الصادقة، والسند الحقيقي والعمق الطبيعي، ويومئذٍ نفرح جميعاً بنصر الله.