يقول أحدُ المؤرّخين بعبارات حزينة ومؤثِّرة، وهو [ويليام كار] في كتابه الشهير: [أحجار على رقعة الشطرنج]؛ صفحة 146: يقول: [.. وفي ليلة مظلمة من ليالي أيلول: (شتنبر) عام (1911)، اغتيلَ أكبرُ رئيس حكومة مُصْلحٍ عرفتْه [روسيا] بينما كان يحْضر عرضًا مسرحيًا في مسرح (كيِيڤ)، وكان القاتل محاميًا يهوديًا يُدْعى (موردَخَاي بورغُوف)، وكان خصمًا للقيصر والملكيةِ؛ والقيصرُ نفسُه كان يشاهد تلك اللّيلة العرضَ المسرحي نفسَه، وتم التستُّر على القاتل وسط الزّحام، واهتمام الجمهور بالعرض المسرحي.. رئيسُ حكومة (بيير ستُوليبِّين) الذي لم يكن الشعبُ الرّوسي ليَحْلُمَ بأفضلَ منه.. كانت إصلاحاتُه إيجابية، وفي أقلّ من ستة أشهر، بدأتْ تُؤْتي أُكلَها، وقد قلّص من عدد وزراء الحكومة، ووضع حدّا للامتيازات، والبذخ، والتخوُّض في ميزانية الدولة؛ فأصلح أحوال طبقة الفلاّحين المتوسّطة، وأحوال العُمّال، والموظّفين، والجنود، وراقبَ ميزانية الدولة مراقبةً صارمةً؛ وبعد اغتياله حاولتِ الحكومةُ الروسية أن تستمرّ في إصلاحات (ستوليبّين) ولكنّها فشلتْ..
ففي عام (1912) أعطى قانونُ تأمين العمّال الصّناعيين، تعويضًا عن المرض، وعن الحوادث بنسبة ثلُثَي المرتَّب العادي عن المرض، وثلاثة أرباع عن الحوادث، وأُعطيت صحفُ الحركات الثورية صفةَ الشرعية لأوّل مرة بعد إنشائها، واتسعتِ المدارسُ الحكومية وامتدّتْ، وأُعيد النظرُ في قوانين الانتخابات لتضمنَ انتخابًا أكثر حرّيةً، وأكثر تمثيلاً، وكان ذلك من آثار إصلاحات (ستوليبّين)، ولكنْ ما كان لهذه الإصلاحات أن تستمرّ في غياب صاحبها الذي أبدعها ومات بسببها.. وفي العام (1913)، منحتْ حكومة القيصر عفوًا شاملاً لكلّ السجناء، وفور إطلاقهم من السجن، شرع هؤلاء في التآمر، والتخطيط لقلب الحكومة الروسية، ودعا الإرهابيون إلى تصفية أفراد العائلة المالكة؛ لكنّ الشعبَ اقتنع بإيجابية الإصلاحات، وبدا في ذلك الوقت أنّ قضية الثورة أصبحت ميّتةً، لأن الإصلاحات التي تكون في صالح الشعب، ويلمس نتائجها، لابدّ لها أن تُقْنِعَ الشعبَ بالتكتّل حوْل شخص الملك..
كان للقيصر (نيكولا الثاني) أعداء في بلاطه، كما كان له خصومٌ في الساحة السياسية.. فخصوم الداخل لم تعجبْهم سياسة (ستوليّبين) الإصلاحية، حيث حرمتْهم من امتيازاتهم، ومنهم من خُلِعَ من على رأس وزارته لعدم كفاءته؛ أمّا خصوم الخارج فكانوا يريدون التخلصَ من الملكية مرة واحدةً وإلى الأبد؛ وبعد اغتيال (ستولبّين) عادتِ الامتيازاتُ، والفساد إلى سابق عهده، ووجد خصوم الخارج مرّة أخرى، المبرّرَ لتحريض الشعب، واللعب بمشاعره.. كان السيد (ستوليبّين) قد تقلّد رئاسةَ الحكومة في يوليوز سنة (1906)، وبعد أقلّ من سنة استاء الفاسدون من سياسته، وبدؤوا يشهِّرون به، فدخل على القيصر (نيكولا) وقدّمَ استقالتَه؛ فوبّخه القيصرُ، وقال له: [أنا الذي عيّنتُكَ، وأنا الذي من حقّي أن أعفيك؛ عُدْ إلى مكتبك وقُمْ بما تراه صالحًا للبلاد والشعب!].. قال الكاتبُ الكبير [تولستُوي] وقد أعجبتْه سياسةُ (ستوليبّين): [لا أعتقد أنّ هذا المصلح الكبير، سيعمّر طويلاً بيْن الفاسدين!].. وسبحان الله، مات (تولستوي) في (20 نونبر 1910) حاملا معه إلى قبره همومَ أمّته؛ فيما مات (ستوليبّين) في (14 شتنبر 1911) حاملا معه إصلاحاته إلى قبره، فلم يعمّرْ طويلاً كما تنبّأ له (تولستوي) قبل أقلّ من سنة.. وما تلا ذلك، لا يُثْلِجُ الصّدرَ، وقد كان مأساةً وكوارثَ، ومصائبَ، أدّى القيصرُ ثمنَها بحياته، وبحياة زوجتِه، وبحيوات أطفاله؛ لهذا نقرأ التاريخ..
فلو كان مثلاً رئيسُ الحكومة [العثماني] رئيسًا حقّا وصدقًا، فهل كان سيمْكُث في الحكم أكثرَ من ستة أشهر؟ فلو كان [العثماني] رئيسًا فعليًا، لبادر أولاً بتقليص عدد وزراء الحكومة، ولما استمرّ في تعيينات في مناصبَ عليا كل أسبوع، ولـمَا تهرّبَ من الحوار الاجتماعي، وهو ما يدلّل على ضعفه، وكلّ ما يستطيعه هو المساسُ بقوت الشعب، وبحقوقه المشروعة، ولا رأي له في ما يقترفه وزراؤُه، وأعضاءُ حزبه من أخطاء، بل هو نفسه سقط لجهله في مطبّات شنيعة.. ماذا يمكن أن يفعله [العثماني] أمام وزير تاجر، ورجُل أعمال شهير، غيْر إخفاء ضعْفه بالتجرُّؤ على المواطن البسيط.. [لقد رأيتُه يتخذ قرارًا بتغريم الراجلين غرامةً إنْ هم لم يلتزموا بقوانين المرور، ورأيتُه يمنع الصحون اللاّقطةَ فوق البنايات، ممّا يبيّن ضعْفَه، ويعطي الدليلَ على أنه بلا خيال، وبلا إبداع، وإنّما يخْبِط خبْطَ عشواء؛ كما رأيتُ أنّ أغلبيتَه صوّتَتْ لصالح مرشّح المعارضة في مجلس المستشارين.. لقد رأيتُه ينسف صندوقَي المقاصّة والتقاعد، ويقترح ضخّ (500) مليار لإنقاذ تقاعُد النواب، وهذه السياسات لا يد له فيها، بل هي تعليماتٌ صارمةٌ للمفتي الأكبر، وهو صندوق النقد الدولي، ولا أدلّ على ذلك، هو أنّ عدة قطاعات ستباع في (کُورنة) الخوصصة لمنْح قرضٍ للمغرب؛ فيكفي أن تطَّلع على ما وصلتْ إليه الديونُ لتعرفَ إلى أين يسير [العثماني] بضعفه بهذه الأمّة مقابل طمعٍ قليل يتلقّاه كلّ شهر.. أمّا حزبُه (العتيدُ) صاحبُ أوراش الإصلاح، فبعضُ الناس يعتقدون أنه ما زال حيّا يُرزَق، فيما الحزب هوى، ومات.