قد يعترض معترضٌ فيرميني بالمبالغة، بسبب مقالتي السابقة، التي وصَفتُ فيها بالجهل السياسي، والقصور المعرفي، بعض المسؤولين والمتحزّبين الذين يتولّون إدارةَ شؤون بلادنا، ممّا يحتّم علينا اليوم إعطاءُ أمثلة من واقعنا دون إعطاء أمثلة من التاريخ، وإنْ كان للتاريخ دلالتُه، ومصداقيتُه، لا شكّ في ذلك.. وكأمثلة حية على بعض مظاهر الجهل السياسي، والفقر المعرفي، سنسوق أمثلةً تخصّ رئيسَ الحكومة الأوّل، وهو [بنكيران]، ورئيس الحكومة الثاني وهو [العثماني]، ثم ظاهرة تصويت الأغلبية الحكومية على رئيس مجلس المستشارين لولاية ثانية.. فرئيس الحكومة المخلوع [بنكيران]، كان لا يشغّل عقْلَه، ولا يضْبط لسانَه، والفرنسيون يقولون إنّ رجل الدولة، هو شخصية عامّة، وعليه أن يكون [Laconique]، وهو ما كان ينقص [بنكيران]، فكبا كبوتيْن اثنتين، أولاهما عندما صرّح بأنه غيْر محتاج إلى رِضا الملك، وجهل أنّ هناك فرقًا بيْن رِضا الوالدَيْن كما قال، ورضا الملك؛ كيف ذلك؟
رضا الوالديْن الذي يحرص عليه [بنكيران] هو رضا فرديٌ أوصى به الله عزّ وجلّ كلّ مؤمن، لـمّا قال جلّ في علاه: [وَوَصَّيْنا الإنسانَ بوالدَيْه…] الآية.. أمّا رضا الملك فلن تناله إلاّ إذا خدمتَ أمّتَكَ، ورعيْتَ في سياستكَ مصالحَ الرعية بصدق، وأمانةٍ، وورع، وتقْوى، وخدمْتَ الله في بلدك، عندها فقط، تنال رضا الملك، ورضا الله عزّ وجلّ، ولكنّ [بنكيران] خدم صناديقَ النقد الدولية، وأتعبَ البلادَ والعبادَ، ونسف صندوق تقاعُد الكادحين، وفشتْ في عهده الجرائمُ النكراء، والانتحارات، وتفاقمتْ مظاهرُ الفساد والتبذير، واشتعلت الأسعارُ، وزادتْ نسبة العاطلين، وانفجر قُبَيْل ذهابه بركانَا (الحسيمة وجرادة)، ممّا يجعل فترتَه، فترةً طالعُها نَحْس.. أمّا الكبوة الثانية فتتمثّل في تصريحه الذي أدان فيه [روسيا] وساند [النّصرة] الإرهابية، ممّا جعل سفيرَ [روسيا] في الرباط يحتجّ، ونحن لنا مع هذا البلد اتفاقياتٌ اقتصادية وتجارية، وهو إلى جانب ذلك عضوٌ دائمٌ في مجلس الأمن الدولي، وله رأيٌ في قضيتنا الوطنية؛ فهل يمكن أن يرتكبَ رئيسُ حكومة ذَكي أخطاء فادحة كهذه؟ ولعل الفيلسوف [الفرابي] وهو أرسْطي النّزعة، عندما قال إنّ المسؤول يجب أن يكون فيلسوفًا ومفكرًا..
أما خلَفُه [العثماني] فقد كبا هو الآخر كبوتيْن، الأولى عندما غضّ الطرفَ عمّا قاله واحدٌ من حزبه (الإخواني) كوْن الملكية هي الأصل في تخلّفِنا، وعليها أن تُطوّرَ نفسَها؛ فلم يتّخذْ رئيسُ الحكومة أيَّ إجراء، وكأن الأمر لا يعنيه إطلاقًا؛ وكبْوتُه الثانية، هي اجتماعُه بوفد من دُوَيْلة [كوسُوڤُو] المنفصلة عن [صربيا]، وبلادُنا لا تربطها علاقةٌ دبلوماسية بهذا الكيان الانفصالي.. هذا الموقف فسّره محلّلٌ سياسيٌ في إحدى القنوات بأنه ينمّ عن أمّية سياسية؛ فهل بإمكان رئيس حكومة في دولة أخرى أن يرتكبَ مثْل هذا الخطإ، ويبقى في منصبه ولو ليوم واحد؟ الجواب: كلاّ! وألف كلاّ! ومنذ أيام، كتب في تدوينة في صفحته بالفيسبوك، يشكو فيها من ظلم السلطة، وتحدّث عن البلطجة التي وقعتْ في مجلس مدينة الرباط، وهو رئيسُ الحكومة؟ ألا يعني هذا أنّ السيد [العثماني] يجهل حتى معنى الحكومة، ودوْرها، وسلطتها، والسلطةُ معناها: الغلبةُ والاقتدار؟ فهل لنا رئيسُ حكومة وَاعٍ، ومقتدر أم لنا صورة تزيِّن الديكور، وتؤثّث المشهد؟
والمظهر الآخر من مظاهر الأمّية السياسية، هو مهزلة انتخاب رئيس مجلس المستشارين، الزائد عن الحاجة، الذي يعجُّ بالانتهازيين، والمتسابقين على موائد الحلوى، كما شاهد العالمُ بالصوت والصورة على شاشات القنوات الفضائية.. فأين شاهدتَ عبر التاريخ أحزابَ الأغلبية المشكّلة لحكومة الأربعين تصوّت بالإجماع على مرشّح هو من أحزاب المعارضة؟ أين يوجد في مبادئ كافّة ديموقراطيات العالم مثْلُ هذا المشهد السُّريالي الساخر، وأية ديموقراطية تسمح بذلك في كافّة دول المعمور؟
سَمَّوْكِ يا ديموقراطية الضَّلال سَفاهةً * عصْرَ العدالة، وأنتِ شَرُّ الأعْصُرِ
وتنوّرتْ بِك الأحزابُ حَسْبَما * قالوا، فيا وحشة المتنوِّرِ
فَما تفتَّحتْ بكِ العقول، وإنّما * يقع الخرابُ بديموقراطية المستبصِرِ
والانتخاباتُ قد تأتي بكلّ بَليةٍ * وتسير بالأمّة نحو التخلُّف المُضْمَرِ..