عبد الله سمارة الزعبي
سأقتصر فيما سأخطه هنا على وقفات قصيرة من حياة الخليفة عمر بن عبد العزيز أعقبها بتعقيبات وتعليقات أسأل الله أن أوفق في سردها..
وأبتدؤها من حيث الأجواء التي نعيشها في الأثناء في منطقتنا..
1
فقد روي أن سليمان بن عبد الملك حج برفقة عمر بن عبد العزيز، فأصابهم برق ورعد حتى كادت تنخلع قلوبهم، فقال سليمان لعمر: يا أبا حفص: هل رأيت مثل هذه الليلة قط، أو سمعت بها؟!
فأجابه عمر: يا أمير المؤمنين، هذا صوت رحمة الله، فكيف لو سمعت صوت عذاب الله؟!!
وها هي أصوات رحمة الله التي تهز بلادنا وتضيء فجاجها تتبعها أمطار الخير لتغسل نيران ودَخَن السوء التي أحرقت آي الله، وأسالت دماء عبيده في عاصمة خلافة عمر وأجداده ونواحيها، تذكرنا بمقالة عمر تلك وبمغازيها..
لم يذكّر عمر سليمان بعذاب الله حينما رآه يتسكع في حانات الروم أو الفرنجة ليقامر بأموال المسلمين أو ينتهك حرمات الله، أو لأنه وجده يترنح لفرط سُكره في حفل ماجن، بل قال ما قاله له وهو متوجه لأقدس البقاع وأشرفها، ميمّما وجهه شطرها، تاركا على رعيته من يؤمن جانبه عليهم، ويخشى الله فيهم..
**
2
رغم إتساع رقعة ملك عمر وكثرة تعداد "شعبه" لم يأل جهدا في أن يستلهم "الخطط" الإقتصادية الرشيدة التي تمكن دولته من إغداق رعيته بالمال حتى أفلح وحقق ما عجز غيره عن فعله..
وسنوات "تصحيح مسار الدولة الإقتصادي" وتحقيق الرفاهية لملايين المسلمين في دولة الخلافة إبان حكم عمر لم تتجاوز العامين، إذ أن مدة ولايته كلها لم تزد على عامين ونصف العام..
أما في بلادنا المعاصرة فترى الحاكم "بأمر الله" الذي يُخلع عليه من الكنى والألقاب والأوصاف و"التبجيلات" ما لا يصح بعضها إلا لله –جل وعلا- ترى هذا الحاكم إذ يوليه الله على رقعة صغيرة من ملك ابن عبد العزيز، يتفنن في جعل أهل تلك الرقعة شيعا وفرقا متناحرة يقاتل بعضها بعضا فتراه "لا يأل جهدا" وهو يقسمهم إلى بدو وحاضرة، ولا ينفك "يستلهم" الطرق التي يشتتهم ويفرقهم من خلالها، وفي الأثناء يرى ملكا آخر يستضعف طائفة من "شعبه"، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، فلا يغرو هو أن يفرق أبناء الأرض والقبيلة الواحدة وفق ما فرق الإنكليز والفرنجة..!
***
3
أما زهد عمر وورعه فهو العجب العجاب بحد ذاته..!
فها هو يطفىء سراج بيته ويضيء آخر؛ لأن الأول كان موقودا على نفقة بيت مال المسلمين يستخدمه لشؤونهم، أما الآخر فعلى نفقته يستخدمه لشأنه..!
ومرة يُحضر "مسكٌ" من خزائن المسلمين وهو جالس فيسد أنفه مخافة أن يجد شيئا من ريحه..!
وها هو يشتهي التفاح فيهديه "أحد أبناء عمومته" شيئا منه فيرفعه ويشمه، ثم يعيده ويأبى أن يضعه في فمه، وحين يُنكر عليه بما أثر عنه صلى الله عليه وسلم من أكله للهدية، يرد على المُنكر بثبات "ويحك! إن الهدية كانت له هدية وهي اليوم لنا رشوة"..!
أما في زمن الإعوجاج ترى الرشاوى تُصفُّ على أبواب الملوك وعتباتهم صفّا، وترى النهب والسلب لا ينفك عنهم، رغم ما حازوا وكنزوا من ذهب وفضة، ما يجعل المرء يحار إزاء أفعالهم تلك، ويفكر مليا بالذي سيفعلونه بكل هذه الكنوز التي تنوء بحمل مفاتحها العصبة أولي القوة، فكيف بها إذا جاءت مع أوزارهم وأوزار "أذنابهم" يوم القيامة..!
ترى ما الذي يجعل حاكما "مبجلا" وأميرا "معظما" في زماننا يقبل "رشوة" ببضعة ملايين إن كانت ملايينه "التي ورثها" لا تبرح بنوك الـ"جيرمن"..!!
**
4
وقبل أن يتوفى عمر الموت حرص على شراء "قطعة أرض" ليُدفن فيها فدفع ثمنها لأهل دير سمعان قرب حمص، فكأنهم إستحيوا أن يأخذوا ثمن "موضع قبر" أمير المؤمنين، فقال لهم: إن بعتموني موضع قبري وإلا تحولت عنكم..!
فقبضوا ثمن موضع قبره، ولربما كانت تلك "القطعة"هي الشيء الوحيد الذي تملكه ابن عبد العزيز بعد توليته خلافة المسلمين، "إستملكها" بثمنها ليُدفن فيها، وكذلك كان..
مات عمر بن عبد العزيز وما ماتت سيرته، وها نحن اليوم بعد قرون عديدة على لقاءه بالرفيق الأعلى ما زلنا نستذكر كلامه وآثاره وورعه وتقواه، ونضرب بها الأمثال، فبمثل هذا قامت أمة الإسلام، وبمثله –لا بمثل طغاتنا- حتما ستعود..
عمت صنائعه فعمّ هلاكه***فالناس فيه كلهم مأجورُ
والناس مأتمهم عليه واحدٌ***في كل دار رنةٌ وزفيرُ
يُثني عليك لسان من لم توله***خيرا لأنك بالثناء جديرُ
ردت صنائعه عليه حياته***فكأنه من نشرها منشورُ