كان [أبو سفيان] قد فقد بصره، وأصيب بالعمى التّام في أواخر حياته [cécité totale] وذات يوم، طلب من صبيٍّ صغير أن يأخذه إلى قبر [حمزة] عمّ النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولـمّا وقف أمام القبر، ركله بقدمه كما ركل الجنيرال الفرنسي [غور] قبْر [صلاح الدين].. ركل [أبو سفيان] قبْر [حمزة] وقال له: [للّه دَرُّكَ يا حمزة، لقد حاربناكَ على أمرٍ صار لنا]. وانفجر ضاحكًا، فتركه الصبيُّ وانسحب، وبقي [أبو سفيان] يدور في ظلمة العمى لوحده؛ لكنّ [گور] الفرنسي، لـمّا ركل قبْر [صلاح الدين] قال له: [لقد عُدْنا يا صلاح؛ هذا هو الواقع!]؛ ألم أقلْ لكَ سيّدي القارئ الكريم، إنّ التاريخَ لا يعيد نفسَه، وإنّما يعيد فقط أحداثَه؟ فما من كذّاب، أو انتهازي، أو منافق، إلاّ ومرّ بالتاريخ شبيهٌ له، وإلاّ لماذا يذكّرنا القرآنُ الكريم في (القصص) بالمنافقين، والمبذّرين، والفَسَقة، والكذّابين، والطُّغاة، والبُغاة، وقسْ على ذلك؟ وللتذكير فقط، فأنا لا أفتري شيئًا من عندي، حسبي الله؛ إنما هي المراجع تحكي، أو كما يقول [طه حسين] في كتابه: [على هامش السّيرة]؛ صفحة (12) حيث يقول: [وأحبّ أن يعْلم الناسُ، أنّي وسّعتُ على نفسي في القصص، ومنحتُها من الحرّية في رواية الأخبار، ما لم أجدْ به بأسًا إلاّ حين تتّصل الأحاديثُ والأخبار؛ فإني لم أُبِحْ لنفسي في ذلك حريةً ولا سَعةً، وإنّما التزمتُ ما التزمه المتقدِّمون من أصحاب السِّيَر، ورجال الرواية، وعلماء الدين]..
إنّي أعلم أنّ كثيرين هم الذين يضيقون ذرعًا بهذا النوع من الكتابة، وكثيرين همُ الذين يفاجَؤُون بأحداث تشْبه ما يحدث اليوم تحت أنوفهم، ويتساءلون عن الأسباب التي كانت وراء إخفاء هذه الأحداث عنهم، وهي جزء من تراثهم، ظلّتْ حبيسة الكتب والمجلّدات.. فالتاريخ عامّة هو تاريخ الأخطاء، والمظالم، والشطط، وأما حِقَبُ العدالة الاجتماعية، والورع، والتقوى، فإنّما هي استثناءاتٌ جدُّ نادرة في حَلْق التاريخ، ولا يقاسُ عليها عادةً، لأنّها تعتبر شاذّةً، والشاذ لا يقاس عليه في عُرْف المناطقة، والمؤرّخين، ونقّاد السياسة.. والآن، أنت تسمع كلّ حزب، وكل تكتُّل، وكلّ زعيم، يدّعي لنفسه أنّه وطنيٌّ غيور، وأنّه يمتلك نخبةً كفأةً، ومستنيرة، كأنّه أتى بها من (عالم المثُل)، والحقيقة بعكس ذلك تمامًا.. كان [معاوية] وقت الشدة، وخاصّة في حربه مع [عليٍّ] يبحث عن النخبة في العلْم، والمعرفة، فسأل إنْ كان في العامّة نُخبٌ يستفاد من علْمها، وذكائها، فيوظّفها فوضع [الفَضلُ بْن يحيا] بيْـنَ يديْه هذا التقرير الصّادم: [والناس يا مولاي، أربعة طبقات: ملوكٌ قدّمهم الاستحقاقُ؛ ووزراء فضّلتهمُ الفطنةُ والرّأي؛ وعِلّية أنهضهمُ اليسارُ؛ وأوساط ألحقهمُ التأدُّب (يعني المثقفين)؛ والناس بعْدهم زَبَدٌ جُفاء، وسيْلٌ غثاء، لكَّعٌ لُكَاع، وربيطة اتِّضاع، هَمُّ أحدهم طعامهُ ونومه]. ومن هؤلاء يتمُّ اختيارُ النواب، والمستشارين، وأعضاء المجالس الجهوية.. فاستدار [معاويةُ] نحو [الأحنف] وهو أحد مستشاريه الثِّقة، وقال له: [صِفْ لي الناس، يا (أحْنف)!]: فقال (الأحنفُ): [رؤُوسٌ رفعهمُ الحظّ؛ وأكتافٌ عظّمهمُ التدبير؛ وأعجازُ نخْلٍ خاويةٍ أشهرهمُ المالُ والكسب؛ وأدباء ألحقَهُم بهم التَّأدُّب؛ والناس بعْدهم أشباه البهائم: إنْ جاعوا، ساموا؛ وإنْ شَبِعوا، ناموا.] هذه هي آراء خاصّة بأنواع الناس في تلك الأيام؛ وكلّهم عُرِفوا بالاحتيال للمعايِش، بأساليب الكذب، والخداع، والمكر، أو نحو ذلك: اُنظرْ: كتاب [البخلاء] للجاحظ..
والآن، تفضّل سيدي القارئ الكريم بالمفاجأة التالية، وقد تصدمكَ، ثم تُضْحِكُكَ لا محالة.. رفعوا إلى أحد وُلاة [معاوية] عن رجُلٍ من النخبة، وعالمٍ متمكِّن يصلح للمسؤولية مثْل هؤلاء في زماننا، ولـمّا أدخلوه إلى الوالي، سأله: [ما مذهبُكَ يا رجُل، يا طيّب؟]؛ أجاب الرجلُ المثقّفُ العارف: [إنّي مُرجِّئ؛ قدَري؛ إباضي؛ رافِضي؛ أبْغَضُ (معاويةَ بن عُمر بن الخطّاب)، الذي قاتل قتالاً مريرًا (عليَّ بن العاص).. قال له الوالي: [والله ما أدري على أيّ شيء أحسُدكَ، على علمِكَ بالمقالات، أو على بصرِكَ بالأنساب..].. وذُكِر أنّ جماعةً في ذلك العصر، اجتمعتْ في مناظرة حوْل (أبي بكر، وعُمر، وعليٍّ، ومعاوية)؛ وكان بعض العامّة يأتون فيستمعون، فتصدّى أطولُهم لحيةً، وأغزَرهم علْمًا، لبعض الباحثين، وقال له: [كمْ تُطْنِبون في عليٍّ ومعاوية، وفلان، وفلان!] فقال له الرجلُ: [فماذا تقول أنت في عليٍّ؟]؛ قال الملتحي العارف: [أليس هو أبا فاطمة؟]؛ قال الرَّجلُ: [ومن هي فاطمةُ؟]؛ أجاب الملتحي: [هي امرأةُ النّبيِّ عليه السلام، بنتُ عائشة، أختُ معاوية!]؛ سأله الرّجل: [فما كانت قصّة عليٍّ؟]؛ أجاب الملتحي العالِم: [قُتِلَ في غزوة (حُنَين) مع النبي؛ وقد كان (عبد الله بنُ عليٍّ) حين خرج في طلب (مروان) إلى الشّام، وكان من قصّة (مروان) ومقْتله ما قد ذُكِر.. ونزل (عبد الله بنُ عليٍّ) الشامَ، ووجّهَ إلى (أبي العبّاس السفاح) أشياخًا من أهل الشام، من أرباب النّعم والرّياسة، فحلفوا لـ(أبي العبّاس السفاح) أنّهم ما علموا لرسول الله قرابةً، ولا أهلَ بيتٍ يرثونه غيْر (بني أميّة) حتى ولّيتُمُ الخلافةَ].. يقول المؤرّخون: [هؤلاء، هم الجهلاء في كلّ زمان ومكان؛ وطلاّبُ السلطة والمناصب بجهلهم؛ ومن استطاعَ كسْبَ ثقتهم، نال من ثمار سُلْطتهم، وقرّبوه، فإذا اجمعتِ السياسةُ والجهل تمّتِ السلطة المطلقةُ؛ هؤلاء، هم من يتولّى أمورَ الناس بجهلهم، ودهائهم، وهم أقْدرُهم على الكذب لتهدئة الخواطر بالألفاظ، وبادّعاء التقوى والدّين؛ هؤلاء هم من يتولّون اليوم أمورنا في هذا البلد..