هناك فرقٌ شاسع بين الأحكام الذاتية والأحكام الموضوعية.. صحيح أنّ كلا النوعين مطلوب في حياة الإنسان، لكنْ لكلٍّ منهما مجاله الخاصّ، والخلطُ بينهما، إنما ينشأ حين يتشاكل علينا الأمرُ، فنصدر الحكم الذاتي في ما كان ينبغي أن يوزَنَ بميزان موضوعي صِرف، لا دخْل لذواتنا فيه، أو نُصْدر الحكمَ الموضوعي في ما هو من حقّ النظرة الذاتية التي نعبّر بها عن الرغبة والهوى.. وهنا تأتي المناسبةُ التي أذكر فيها مسرحيةَ (راشُومُون) للكاتب الياباني [رينوسوكي أكوتاجاوا]؛ ولقد مات هذا الكاتبُ الياباني منتحرًا سنة (1927) وهو في مسرحيته (راشُومُون)، يبني على أساس حادثة وقعتْ في اليابان منذ ألف عام كما يزعم؛ فما فصول هذه القصة بإيجاز شديد غير مُخِلّ؟
القصة وما فيها هي أنّ رجلاً من طبقة (الساموراي) كان مع زوجته يسيران في غابة، فقطع عليهما الطريق لصّ، وانتهى أمرُه معهما بأن اغتصب الزوجةَ، وقُتِل الزوجُ (بضمّ القاف)، وشاءتِ المصادفةُ أن يمرّ حطّابٌ فيرى ما قد حدث، فيسرع إلى مركز الشرطة عند بوّابة (راشومون)، فيكون التحقيق، ويُؤْتى بالشهود: قاطعُ الطريق؛ والزوجة؛ والحطّاب.. فكان العجب، لأنّ كلاّ من هؤلاء روى ما حدث كما رآه أو شارك فيه، فإذا نحن أمام شهادات مختلفة كلّ الاختلاف؛ فقاطعُ الطريق يؤكّد أنّه القاتل؛ والزوجة تؤكّد أنها هي القاتلة؛ والحطّاب يشهد بأنّ الرجُلَ قد قتل نفسَه بسيفه.. يبدأ التحقيقُ باتّهامٍ يوجّهه النائبُ العام إلى قاطع الطريق، فهو ومن هو، حياتُه مليئة بالجرائم، ويسأل قاطعَ الطريق فيعترف بأنه القاتل، ويقصّ القصةَ!: لقد كان مسترخيًا للراحة حين رأى الزوجَ وزوجتَه، كان الزوج يرتدي عباءةَ السّاموراي، ويحْمل سيفًا ذا مقْبض نفيس، وكان يقود حصانًا تمتطيه الزوجةُ، وعلى رأسها قبّعةٌ يتدلّى معها نقابٌ يخفي وجْهَها، ولولا الرياح التي أزاحت النقابَ، لما شهد قاطعُ الطريق ذلك الجمال الفاتن فبهره جمالُها، وصمّم على أن يظفر بها، حتى لو أدّى ذلك إلى قتْل زوجها.. قال قاطعُ الطريق: [ليس القتلُ عندي أمرًا ذا بال؛ إنما هو مقيتٌ عندكم أنتم أيها المهذّبون؛ لأنكم تُؤْثرون القتلَ بطرق أخرى، فتقتلون، لا بالسيف، ولكن بسلطتكم وأموالكم.]؛ اعترفَ قاطعُ الطريق بأنه قتل الزوج ليغتصبَ منه امرأتَه، لكن الأمر الغريب أنه لم يكن يرغب في قتله، بل أراد أن يزيحَه عن الطريق، فأغراه الزوجُ بعدة أشياء ثمنية، ووقع الرجلُ في الفخ، فربطه على جذع شجرة حتى فرغ من إثمه..
لكن الزوجةَ هي التي أرادتْ أن تنتقم لنفسها، فحاولتْ قتلَه، غير أنه أمسك بذراعها وشلّ حركتَها، فتحدّتْه أن يفكَّ وثاقَ زوْجها لينازلَه انتقاما لشرفه الضائع، ففعل، وكانتِ المبارزةُ؛ وانتهتْ بقتل الزوج؛ وبعد المبارزة، بحث قاطعُ الطريق عن الزوجة، فلم يجدْها.. وجاء دورُ الزوجة لتؤدّي شهادتَها، فكانت لها روايةٌ أخرى؛ إنّ هذا الوغد بعد اغتصابه للزوجة، راح يتودّد إليها مزهُوًا بنفسه، فرفستْه، وأرادتْ معه صراعًا، لكنّه اختفى في الغابة، فاتجهتْ إلى زوجها تستعطفه عن إثم لم تقترفْه طواعيةً؛ لكنّ الزوجَ قذفها بنظرات احتقار، فأخذها الهمُّ الحزينُ، وناولتْه سيفَه قائلةً له: (خُذْ سيفَكَ، اقتُلْني إذا كان هذا يريحك؛ اقتُلْني، ولكنْ لا تنظرْ إليّ بهذا الاحتقار..).. وتمضي الزوجة في شهادتها فتقول: (ولا أدري ماذا حدث، فلعلّني قد أُغْمِيَ عليّ من هوْل الموقف، ولـمّا استفقتُ، وجدتُ السيفَ مغروزًا في صدره، فأدركتُ أنّي لابدّ أن أكون قد قتلتُه في حالة الغضب من حيث لا أعي)..
وتأتي شهادةُ الحطّاب، فيروي أنّ قاطعَ الطريق يجْثُو أمام الزوجة، متوسّلاً أن تصاحبَه في فرار، يهْرب به من حياة الجريمة إلى حياة عملٍ شريف؛ فلما ألحّ، وأصرّتْ على رفضها، ظن أن وجودَ زوجها هو العقبة، ولابدّ من إزالتها؛ ولـمّحت الزوجةُ، وقالت إنها لن تتزوّجَ من قاتل، لكنّه لو فكّ وثاقَ زوْجها، ونازلَه، وانتصر عليه، فعندئذ تصْحبه زوجةً له لأنّها ستكون زوجةً لمنتصر في القتال، لا زوجةً لمجرم قاتِل.. لكنْ لـمّا فكَّ وثاقَ الزوج لينازلَه، رفض هذا الأخير منازلةَ رجُل من المجرمين السّفلة، لأنّ شرف سيفه يأبى عليه؛ كما رفض قاطعُ الطريق المنازلةَ من أجل امرأةٍ سمع لتوّه من زوْجها يعيّرها بماضيها، حيث كانت مجرّد خادمة، فرفعها إلى منزلة النبلاء، فلم ترتفع، لأنها لو كانت فعلاً نبيلةً، لآثرتِ الموتَ على أن تفعلَ ما فعلتْه مع سافلٍ حقير.. فجُنّ جنونُ المرأة من الرّجليْن معًا، فشقّ على الزوج أن يعيشَ بعد هذا كلّه، فانتحر بأن أغمد سيفَه في صدره، وهكذا، ضاعت الحقيقةُ بين الشهود الثلاثة، ولا أحد منهم تعمّد الكذب، وكلّ ما في الأمر، أنّ كل واحد منهم رأى الموقفَ من خلال عينيه، وأذنيه تارةً، ومن خلال ظنونه، وأوهامه تارةً أخرى، فالجانب الموضوعي في هذا كلّه، هو أن المحاربَ النبيل قد وُجد مقتولاً بسيفه، وأمّا حواشي الروايات الثلاث، فنظراتٌ ذاتية امتزج فيها حقٌّ بباطل.. إنّ الحق لا يوصَل إليه بنظرات جزئية خاطفة، أو سيناريوهات مفبركة، بل بإنصاف الناس، مع التمسك بالحق، وبالإمساك عن الحكم المتسرّع، خدمةً لمصلحة ذاتية، حتى تكتمل الرؤيةُ ليكتمل النّظر.. هذا يجرّنا إلى الحديث عن فاجعة القطار في (بوقنادل)، وقد تمّت صياغةُ سيناريو غيْر مقنع، وغير موضوعي، وكان السائق هو (كبش الفداء) الذي تستّر خلْفه المسؤولون الكبار، الذين هم أحقُّ بالمساءلة، والمحاسبة؛ فإلى الغد..