حقق الموحدون نجاحا سياسيا و عسكريا، أفرز نجاحات أخرى اجتماعية واقتصادية وحضارية، أدخلت إمبراطورية الموحدين التاريخ الحضاري من بابه الواسع (1) ، إذ وحدوا المغرب الكبير من برقة وطرابلس إلى المحيط الأطلنتي، وأعادوا سيطرة الإسلام إلى الأندلس وجزر إسبانيا، فاستقرت الأوضــــاع بممالك الغرب الإسلامي بالمغرب العربي والأندلس طولا وعرضا، بفضل جيش موحــــدي محكم التنظيم وأساطيل بحرية متطورة فرضت على مياه البحر الأبيض المتوسط وتجارته سيطرة كاملة، وفي عصر الموحدين انصهرت كل مكونات المجتمع المغربي من عرب وبربر، وانتشرت اللغة العربية انتشارا واسعا بفضل قبائل بني هلال وسليم الذين استقدمهما المنصور الموحدي من إفريقية، وقــد ساهم استقرار السياسة وتجانس المجتمع في ازدهـــار الاقتصاد وتحسن الأحوال وارتقاء المعارف والعلوم ، وتوثقت الصلات بين المغرب و المشرق والأندلس ، فكــــــان المجال سانحا للخلق والبناء والابتكار، وقد استطاع الموحدون بفضل ما أبدعوه من روائـــع تبـــوء المقام السامي في تاريخ الفن الإسلامي ، لا سيما في عهد "يوسف" الذي عاش في إشبيلية وتشبــع بروح الثقافة الأندلسية و زينها بأروع البنايات و المؤسسات العمومية، ثم جاء ولده "يعقوب المنصور" فكان أبدع بناء في تاريخ المغرب الفني ، وقد تجلت أهم البدائع الموحدية خاصة في إشبيلية و الرباط ومراكش التي أصبحت ببناياتها و قصورها وحدائقها أشبــه ببغداد في الشرق (2) ، ولم تقتصر حضارة الموحدين على الجانب العمراني فحسب، بل امتدت إلى مختلف المجـــالات الفكرية و الصناعية و الاجتماعية كالطب و الصيدلة و التعليم وصناعة السفــــن وصناعة البناء ومد القنــــوات والاهتمام بالكتب والخزانات (3) ، وسوف يتم التوقف عند العمارة الدينية الموحدية باعتبارها مرآة عاكسة لثراء و عظمة التراث الحضاري الموحدي ، عمارة تشكلت لبناتها الأولى في مسجد "تينمل" الذي جمع بين ثنائية البساطة و التواضع انسجاما مع مرحلة التأسيس ، قبل أن تبلغ منتهى القوة و العظمة و الإبداع بدءا بجامع الكتبيين بمراكش مرورا بالمسجد الجامع بقصبة إشبيلية بالأندلس وانتهاء بجامع حسان برباط الفتح الذي شكل ولا يزال ليس فقط "أيقونة" المعمار الديني الموحدي ، بل و إحدى روائع الفن المعماري المغربي عبر التاريخ ، وهي معلمة تاريخية لم يتبق منها سوى بدن صومعة شهيرة (صومعة حسان) وأطلال عبارة عن أعمدة و بقايا السور ، لكنها لا زالت تحمل من جهة ، كل مظاهر القوة و العظمة و الإبداع بالنسبة للناظرين و الزائرين ، ومن جهة ثانية كل تجليات الغموض و الإبهام بالنسبة للباحثين و المهتمين بحقل التاريخ و الحضارة والمعمار، من منطلق أن المعلمة عبث بها الزمن وفقدت الكثير من مقوماتها وملامحها عبر التاريخ، و ما تبقى منها اليوم يفتح شهية السؤال والتأمل حول عدد من القضايا كالموقع و الإسم (حسان) و التأسيس ، وعليه سنقارب "الموقع"الاستراتيجي للجامع (أولا) ثم سنحاول فك بعض شفرات الغموض و الإبهام الذي أحاط باسم "حسان" (ثانيا) والإحاطة بمختلف النقط الإشكالية التي تثيرها مسألة "التأسيس" (ثالثا) على أن نختم بوصف هذه المعلمة البارزة التي تشكل "أيقونة " المعمار الديني الموحدي بامتياز(رابعا)
- أولا : مسألة الإسم :
لاشك أن مشروعا معماريا عملاقا بهذه القوة والعظمة كانت وراءه دراسة مستوفية وتصميما محكما للمعلمة الجديدة، بتوزيعها الهندسي و مرافقها الهامة و بعدها الجمالي، ولا شك أيضا أن هذا المشروع الذي عكس -وقتها- سمو وعظمة الدولة الموحدية كان يحمل إسما معينا، وهذا أمر طبيعي جدا، لأن أي معلمة لابد لها من إسم يخلدها ويؤرخ لها و لمؤسسها عبر التاريخ ، بيد أنه وباستقراء المصادر الموحدية ، يلاحظ أنها لم ترد إسم الجامع ، كما هو الحال بالنسبة للمراكشي وهو شاهد عيـــان ، ولم يرد كذلك الإســـم في كتابات الرحالة ابن بطوطة ، وأول إشــارة لاسم "حسان" وردت في كتاب "روض القرطاس" لابن أبي زرع الذي روى أنه " وفي سنــة ثلاثة و تسعين بني رباط الفتح وتم ســوره وركبت أبوابه، وفيها بني جامـع حســان
ومناره " (4) ، مما يفسح الباب على مصراعيه لطرح عدد من الأسئلة المشروعة من قبيل كيفية تفسير تجاهل الكتابات المعاصرة لاسم الجامع ، و ظروف السبــق الذي كان لصاحب كتاب روض القرطاس في الإفصاح عن إسم الجامع (حسان) ، ثم التساؤل عن الغموض الذي لا زال يكتنف إسم "حسان" الذي اقترن إسمه بهذه التحفة المعمارية ، ثم السب أو الأسباب التي حالت دون ربط الجامع باسم الخليفة المؤسس "المنصور" ، وأخيرا أي "إسم" كان يحمله الجامع أيـام الموحدين ، أسئلة وأخــرى وإن تقاطعت اتجاهاتها، فهي تتلاقى في دائرة الغموض والإبهام الذي ظل ولا يزال يكتنف إسم هذا الصرح المعماري البارز، وما يعمــق هوة الغموض و الإبهام ، هو أن المسجد الجامع و بعد توقف أشغال البناء بوفاة مؤسسه ودخول الدولة في طور التراجع والانهيار، قد دخل في زمن طويل من النسيان والإهمال عبر التاريخ ، بل وسيكون محلا للسرقة و النهب على مستوى الحجارة و الأخشاب ، مما أدخله في دائرة الخراب في ظل الأسر الحاكمة التي تعاقبت على حكم المغرب بعد الموحدين ، ومهما كانت مشروعية هذه الأسئلة ، فقد أثــار إسم "حســــان" فضول الدارسين و الباحثين ، فقد ربطه البعــــض بإسم بانيــه ،
وهناك من يذكر أن "حسان" كان مهندسا أندلسيا ، وأنــــــــــه هو الذي وضع تخطيط الجامع والمئذنــة ، وأن ضريحــه يقــع في مقبرة صغيـــرة من الجامع (5) ونسبـه البعض إلى قبيلة "بني حسان"(بني حسن) المستوطنة لجزء من سهل الغرب ، فيما يرى البعض الآخــر أن اللفظ يعود إلى "الحسن" و"الجمال" الذين كانا للجامع ، ويبدو أن هذه القراءات وبدل فك طلاسيم الغموض الذي يكتنـــف الإسم ، فقد زادت الأمر تعقيــدا وإبهامــا ، إلى حد يصعب معه الميل إلى هذا الطرح أو ذاك ، وعموما لابد من الإقرار بأن إسم" حسان" طرح وسيطرح إشكالا عويصا أمام الباحثين في خبايــا هذه المعلمة العظيمة ، مما يدعو إلى مباشرة المزيد من البحث و التقصي حول شخصية "حسان" الذي ارتبط إسمه بالجامع، وإلى قراءة النصوص قراءة جديدة تعتمد على المقارنة والتأمل والتساؤل .
- ثانيا : قراءة في الموقــع .
يقع جامع حسان في شمال شرق رباط الفتح،على ارتفاع يصل إلى حدود 30م من سطح البحر، ولم تكن الأرضية المخصصة لبناء الجامع منبسطة تمام الانبساط، بل كان لها انحدار في اتجاه الشمال، مما فرض جلب كمية هائلة من الأتربة لملئ المواضع المنحدرة (6) ،وهذا الواقع يسمح بطرح سؤالين إثنيــن ،أولهما لماذا تم اختيار هذا الموضع بالذات، رغم أن الرباط بنيت على أرض الكثير من مواضعها منبسطة أو قريبة من الانبســـاط ؟ ثانيهما لماذا لم يشيد الجامع في مركز المدينة الجديدة (رباط الفتح) حتى يشكل نواة مركزية تتأسس حولها ما يلزم من مؤسسات ومرافق وتجمعات سكانية ذات الصلة بمدينة في طور التأسيس على غرار المدن الإسلامية ؟ وبتعبير آخر يمكن التساؤل حول الخصوصيات التي ينفرد بها الموقع/ الموضع المختار، والتي تكون قد تحكمت في اختيارات "المنصور" ومهندسه ، ويمكن قراءة هذه الخصوصيات على النحو التالي :
- على مستوى الموضع ( Site ) :
إن قراءة أولية للموضع ، تسمح بإبداء جملة من الملاحظات منها : ارتفاعه عن مستوى سطح البحر، وإشرافه على النهر (أبي رقراق) و إطلالته على عدوة سـلا وعلى القصبة الموحدية والبحر ، بمعنى آخر يمكن القول أن "الموضع المختار" يتراءى من نقط مختلفة ، وبالتالي فاختياره لم يكن مصادفــة ، بل يعكس دقة في الاختيـــــار وعمقا في التصـــور ودراسة مستوفية للمجـال الطبوغرافي .
- على مستوى الموقع ( Situation ) :
موقع جامع حسان برباط الفتح، ينم عن بعد استراتيجي هام، ويحقق للمعلمة الناشئة قوة وإشعاعا داخل مجالين مترابطين ومتفاعلين : مجال "خاص" تتفاعل فيه ثلاثة أنسجة حضرية تتمركز بين ضفتي أبي رقراق كل من "القصبة الموحدية" و "رباط الفتح" و "عدوة "سلا" فضلا عن "موقع شالة " ، ومجال عام يمكن قراءته بتموقع "رباط الفتح " عموما و الجامع خصوصا في مكان يحضى بجاذبية كبرى تجعله قنطرة عبور لا محيدة عنها للجواز من مراكش العاصمة إلى عدوة الأندلس ، دون إغفال أن تشييد معلمة عملاقة منفتحة على البحر (المحيط الأطلسي) هو رسالة تعكس قوة و عظمة الإمبراطورية الموحدية التي بسطت نفوذها على مجال واسع من منطقة المغارب ، ومرآة عاكسة لجامع أسس لينافس كبريات المساجد الجامعة بالشرق الإسلامي، ولذلك فقد جاء حاملا لكل معاني القوة والشموخ و العظمة ، وتوضيحا للرؤية لا يمكن فك شفرات الموقع دون استحضار العناصر أو المعطيات التاليـة :
- الرباط شكلت رباطا للمجاهدين وقاعدة لتجهيز الحملات في اتجاه الأندلس ، وبالتالي كان لا بد من إقامة جامع كبير المساحة يطل على النهر ويشرف على البحر، حتى يكون في متناول المجاهدين خاصة أيام الجمعة ، وما يشجع على تبني هذا الطرح ، هو ما نقش حول إحدى نوافذ "صومعة حسان" جهة البحر من "صورة سيفين عظيمين وجهت رؤوسهما إلى السمـــاء ، وفي تخصيص تلك الجهة بهاتين الصورتين ، إرهــاب للعدو المهاجم من البحر، و رمز إلى التهيــؤ له والاستعداد" (7).
- انطلاقا من العاصمة "مراكش" كان يصعب التدخل في شــؤون الأندلس و خوض الحروب المقدسة ضد القوى النصرانية، مما استلزم بناء مدينة جديدة على شاطئ البحــر، تسمح بإقامة المجاهدين وتساعد على تجهيز الجنــد في اتجاه الأندلس متى دعت الضرورة إلى ذلك ، وقد استجابت "رباط الفتح" بموقعها الاستراتيجي لكل هذه الأغراض ، واعتبارا لذلك لا يمكن أن يشيد المسجد الجامع إلا في هامش المدينة في مكان مطل على النهــر يسمح بعملية الجواز إلى البحــر بكل سلالة ، أما إذا شيد في مركز المدينة مثلا ، فسيشكل ذلك عرقلة للمجاهدين وعبئا إضافيا لهم.
- بعد جامع حسان عن الأنسجة الحضرية لمجال أبي رقراق وإشرافه على الوادي و البحر، يعكس رغبـــة كان القصد منها الاستجابة لأغراض دفاعية و عسكرية ، أملتها ضرورات الجهاد بالأندلس ، ولم يكن القصد منه الاستجابة لحاجيات الساكنة المحدودة جدا لضفتي أبي رقراق.
- يمكن الإشارة أيضا إلى أن البحر يحمل أبعادا متعددة الزوايا إن على المستوى الإشعاعي أو التواصلي أو الجمالي ، وهو رمز للقوة و العظمة و الجمال ، فعظمة "حسان" لا توازيها سوى عظمة البحر، وعظمة البحر تجسدت صورتها في هذا الصرح المعماري العملاق ، وكأن المهندس كان يسعــــى إلى تحقيق نوع من المقاربة بين "حسان" و "البحر"، فبقدر ما يعظم البحر، بقدر ما يعظم الجامع و تسمو المنارة الجميلة في سماء العمارة الدينية الموحديــــة ، وحضور البحر ، نقل هذا الصرح من بعده المحلي الضيق ، ليتفتح على مجال لا متناهي حقق ويحقق له إشعاعا أكثر وشهرة أكبــر، كواحد من روائع الفن المعماري المغربي زمن الموحدين ، وبالتالي لابد من التأكيد إلى أن أية قراءة لموقع جامع حسان ، لا بد لها وأن تضع الموقع في أبعاده التاريخية والاستراتيجية و الجمالية ، وإلا تكون قراءة أحادية الجانب .
- ثالثا : مسألة التأسيــس.
كل الرويات والنصوص تنسب جامع حسان برباط الفتح إلى ثالث الخلفاء الموحدين يعقوب المنصور(580 -595/1199م) الذي أمر في الوقت الذي جــاز فيه إلى الأندلس لغزوة الأرك سنة 591هجرية، أمر ببناء جملة من الصروح المعمارية أشار إليها صاحب"روض القرطاس" بقوله " و كان لما جاز إلى الأندلـس لغزوة الأرك المذكورة، أمـر ببنـاء مدينة مراكش وبناء الجامع المكرم الذي بإزاء القصبة و صومعته ، وبنــاء منار جامع الكتبيين، وبناء مدينة رباط الفتح من أرض سلا ، وبنــاء جامع حسان ومنــاره " (8) ، و يستشف من الرواية أن تاريخ الأمر بالبناء بالنسبة لرباط الفتـــح وبناء جامع حسان ومناره قد وقع عند جواز المنصور إلى الأندلس لغزوة الأرك التي بدأها بخروجه من مراكش في 18 جمادى الأولى سنة 591هجرية (9) ، وقد اعتمـد هذا النص كل الذين أرخوا للخليفة الموحـــدي "يعقوب المنصور" ونسبوا بناء مدينة ربــاط الفتح وجامع حسان ومناره إليــــه، وقد أورد صاحب "روض القرطاس" كذلك في ذكره لحوادث سنــة 593هجرية أنه " وفي سنــة ثلاثة وتسعين ، بنــــي رباط الفتح وتم سوره و ركبت أبوابــــه ، وفيهـــا بنــي جامع حســــان ومنــاره ، و فيها بنــي منــار جامــع إشبيليـــة ومنـــار جامع الكتبييــن من مراكش، وفيها تمت قصبـــة مراكش وجامعها بالبنـــــاء"(10) .
إن قراءة فــي الحوادث التي أوردهــا ابن أبي زرع ، تسمـــــح بإبداء الملاحظات التاليـــة :
- أن لفظة "أمر بالبناء" التي أوردها بن أبي زرع،بعد جواز المنصور إلى الأندلس، لا ينبغي أن نقصر فهمها على أنها " أمر بالتأسيس".
- أن لفظة "بنــي" الواردة قبل إسم جامع حسان ومناره في ذكر حوادث سنــة 593هجرية لا يجــوز أن نفهم من خلالها، أن عمليات" التخطيط" و" التأسيس" و"البناء" كلها نفــذت في نفــــس السنــــة .
- لا شك أن ابن أبي زرع يطلق لفظة "أمر ببنــاء" و لفظة "بنــي" على عمليات إتمـــام وإكمال "يعقوب المنصور" لبعض أعمال ومنشآت أبيــه "يوسف" وجده "عبدالمومن" ، فمنــار جامع الكتبيين - مثلا - شرع في بنائــه "عبدالمومن" وأتمه حفيده "يعقوب المنصور" الذي أضــاف الجزء الأعلى منه ، كما أن منار المسجد الجامع بقصبة إشبيلية ، شرع في بنائــه "أبو يوسف" وأتمه ابنه "يعقوب".
وبعيدا عن الغموض و الإبهام الذي يكتنف رواية ابن أبي زرع ، وبالنزول إلى مستوى المصادر الموحدية، من الضروري الأخد برواية المؤرخ عبدالواحد المراكشي - المعاصر للأحداث - و الذي يشير إلى أن أشغال البناء توبعت بدون انقطـــاع طيلة فترة حكم الخليفة "يعقوب المنصور"، وقد روى في هذا السياق "ولم يزل العمل فيها وفي مسجدها المذكور ، طوال مدة ولايته إلى سنـــة 594هجرية " (11) ، وبذلك فهو يرجـــع تأسيس الجامع إلى سنة 580هجرية/1184م، وهـي السنة التي تسلم فيها المنصور مقاليد السلطة ، وهذه الرواية وإن كانت تحضى بقسط وافر من الوثوق و الدقة بالنظر إلى معاصرة صاحبها للأحداث مقارنة مع رواية ابن أبي زرع ، فهذا لا يمنع من إخضاعها للمساءلة و التمحيص لعدة اعتبارات منها :
- القبول بسنة 580هجرية كسنة للتأسيس مباشرة بعد تسلم يعقوب المنصور لمقاليد السلطة ، إقرار أن مشروع بناء جامع حسان لم يكن مدرجا ضمن التخطيط العام لمدينة رباط الفتح.
- لا يمكن تقبل مشروع معماري كبير يقضي ببناء مدينة جديدة (رباط الفتح) تغيب عنه فكرة "الجامع" الذي شكل المركز النابض للمدينة الإسلامية الوسيطية .
- الأخد برواية عبدالواحد المراكشي ، معناه أن يعقوب المنصور هو الآمر بالتأسيس للمعلمة في نفس السنة التي تسلم فيها السلطة (580هجرية) .
- أن مشروعا معماريا دينيا ضخما أريــد له أن يضاهي كبريات المساجد الجامعة في الشرق الإسلامي ، من المنطقي أن تكون فكرة تشييده ووضع الدراسات المرتبطة به (تقنية ، طبوغرافية ، مالية ، مائية ...) سابقة لسنة تأسيسه .(أي سنة تسلم يعقوب المنصور للسلطة).
بناء على الاعتبارات السالف ذكرها ، من المرجـــح أن يكون مشروع بناء جامع حسان حاضرا ضمن التخطيط العام الذي و ضعه أبو يعقوب يوسف بخصوص مدينة رباط الفتح، و بالتالي قد يكون هو الآمر بالبناء، بل و ربما هو المدشن للأعمال كما ذهب إلى ذلك "كايي" (12) ، بينما "يعقوب المنصور"يحتمل أن يكون مجرد منفذا لأوراش العمل الكبرى التي بوشرت في عهد والده، ومن ضمنها طبعا مشروع بناء الجامع.
إذن وتأسيسا على ما سبق ، فسواء تعلق الأمر ب"الإسم" أو "الموقع" أو "التأسيس" ، من المؤكد أن المعالم الكبرى التي تؤسس بقرار رسمي كما هو الحال بالنسبة لجامع حسان برباط الفتح ، لا يمكن أن يتخذ قرار بنائها بشكل اعتباطي أو تلقائي ، بل تسبقها دراسات وأعمال تحضيرية متعددة المستويات من قبيل الحسم في اختيار المكان الذي يستجيب للشروط الطبوغرافية القادرة على حمل البنيان و يحقق الوظيفة الدفاعية المرتبطة بـه . ووضع التخطيطات المناسبة من طرف المهندسين و التقنيين وسبل جلب العمال و الصناع التقليديين ومواد البناء و كيفية تدبير الميزانية الضرورية لانطلاقة و مسايرة الأشغال، بما في ذلك وضع إسم خاص بالمعلمة الناشئة التي لا يمكن مقاربتها بمعزل عن مدينة جديدة ناشئة إسمها "رباط الفتـــح" ، وهذا الطرح يحفز على بدل المزيد من الجهود من قبل الباحثين والمهتمين من أجل فك شفرات الإسم و الموقع والتأسيس .
- رابعا : وصف المعلمة .
بعد أن تم رصد جوانب من الغموض والإبهام الذي يكتنف جامع حسان ، لا فيما يتعلق بالإسم الذي لم يرد في المصادر التاريخية الموحدية، أو الموقع الاستراتيجي المتميز ضمن المجال الحضري لرباط الفتح ، أو فيما يتعلق بتاريخ التأسيس ،فإن هذه المعلمة الدينية لم تتبق منها اليوم سوى الأطلال وبدن صومعة بديعة (صومعة حسان) تعكس عظمة جامع كان يعد من أكبر جوامع الغرب الإسلامي على الإطلاق، وثاني أكبر الجوامع الإسلامية قاطبة بعد جامع سامراء بالعراق ، بمساحة تناهز 25.500 مثر( 139,32X183,12 )(13) خصص فيها لقاعة الصلاة ما مساحته 19,321 متر( 139x139)(14)، وهي مساحة شاسعة جدا أشار إليها المراكشي بقوله " وبنى (أي المنصور) فيها (أي رباط الفتح) مسجدا عظيما كبير المساحة و اسع الفناء جدا، لا أعلم في مساجد المغرب أكبر منه "(15) ، وقد بلغ عدد أبواب الجامع كما ذكر "عبدالله السوسي" ستة عشرة بابا كانت في غاية الضخامة بعلو يتجاوز عشرة أمتار(16) ، و اشتمل البناء كما وصفه العلامة "الدكالي" على "مائتي ساريــة من عمد الرخام ، محيط العمود منها أربعة عشرة أشبرا ، و طوله أزيــد من عشرين شبرا "(17) ، و هذا الصرح المعماري الكبير تطلب تشغيل عدد كبير من العمال كان بعضهم من الأسرى ، وقد أشار إلى ذلك "أحمد بن خالد الناصري " بقوله " وقد كان يعمل في بنائــه ونقل حجارته حوالي سبعمائة أسير من النصـــارى الإفرنج كانوا مكبلين بالسلاسل"(18) ، و لم يكتب لهذه المعلمة أن يكتمل بناؤها ولا أن تؤدي وظائفها كما ابتغاها لها بانيها الخليفة"أبويوسف يعقوب"، ذلك أن مشروع البناء لم يتم ، كما ذكر" المراكشي" في سياق وصفه للجامع بقوله :
" وبنى فيها مسجدا عظيما كبير المساحة واسع الفناء جدا ، لا أعلم في مساجد المغرب أكبر منه ـ وعمل له مئذنة في نهاية العلو على هيئة منار الإسكندرية ، يصعد فيها بغير درج ، تصعد الدواب بالطين و الآجر والجص، وجميع ما يحتاج إليه إلى أعلاها، ولم يتم هذا المسجد إلى اليـــوم ، لأن العمل توقف عنه بموت أبي يوسف، ولم يعمل فيه محمد ولا يوسف شيئا " (19)، و هذه الشهادة تكتسي أهمية بالغة ليس فقط لأن صاحبها كان معاصرا للأحداث، بل أيضــا لأن زياراته المتكررة لمدينة رباط الفتح قد مكنته من معاينة ورش البناء بأم عينـه ، ولمس عن كثب توقــف الأشغال ، و بعد نحو مائة سنة ،أي في عام 726ه/1326م يذكر صاحب روض القرطاس أنه " وفي سنــة ثلاثة و تسعين وخمسمائة بني رباط الفتح وتم ســوره وركبت أبوابه ،وفيها بني جامع حسان ومناره"(20).
كتاب أخرين كابن الخطيب وبن بطوطة(عاشا في القرن 14م) و الناصري(عاش في القرن 19م) لم يحملوا أي عنصر جديد فيما يتعلق بعدم إتمام الجامع، كما أنهم كتبوا في مرحلة متأخرة ، بينما المراكشي فهو معاصر للوقائع التي أوردها ، بل أكثر من ذلك ورغم استقراره بمراكش، فقد استقر برباط الفتح خلال فترات متقطعة (21) لذلك فقد عاين بأم عينه توقف أشغال البناء، مما يضفي على شهادته قيمة خاصة مقارنة مع الروايات اللاحقة خاصة تلك التي حملها ابن أبي زرع ، وفي سياق متصل،فقد حاول الباحث الفرنسي"ديولافوا" – بناء على الحفريات التي أجراها بالموقع سنة 1914م وانطلاقا من بعض المصادر التاريخية – حاول إثبات اكتمال الجامع، إلا أن نظريته ووجهت بانتقادات عدد من الباحثين في مقدمتهم "جاك كايي" في كتابه "جامع حسان بالرباط"(22)، مقابل ذلك، فقد أورد العلامة الدكالي في كتابه "الإتحاف الوجيز" معطيات تؤكد على إتمام الجامع وتركيب سقوفه(23)، إلا أن روايته تبقى قليلة الأهمية من منطلق أنه كتب في مرحلة جد متأخرة، ولم يكن له أي اتصال مباشر بالوقائع التي سردها، ولاشك أن العثور على بقايا سقفية وصفائح من الرصاص وأقواس صغيرة من الآجر وقطع من الزليج والقرميد تحت الردم، يدل على أن المسجد سقف فعلا(24) ، لكن من المؤكد أن أشغال البناء توقفت كما أشار إلى ذلك المراكشي، وأن أشغال البناء وصلت إلى مراحل متقدمة دون أن يتخد الجامع شكله النهائي، وإلا كيف يمكن تفسير تعرضه للخراب والإهمال.
وهكذا، فقد لقي الجامع مصير البنايات غير المكتملة، وتعرض في مساره التاريخي إلى جملة من الأحداث أحالته أطلالا، وقد خصص الفقيه الدكالي في " تقييد في بناء جامع حسان من رباط الفتح"(25) مبحثا خاصا بخراب الجامـــع ، واستعرض فيه جملة من الأسباب التي ساهمت في خرابه منها اشتماله على خشب الأرز المتيــــــــــن والعمد الرخامية، مما جعل الأيدي تمتد إليه بالسرقة والاختلاس، و الحريق الهائل المشاهد مصحوبا مع سقوط الأعمدة وكذا زلزال 1169م الذي أصاب مدنا مغربية كمكناس والرباط وسلا ، ومن الطبيعي أن يكون جامع حسان و صومعته قد تضررا بفعل هذه الكارثـــة ، وفي القرن الثامن عشر، وفي عهد السلطان مولاي عبدالله (1729-1757) يشير "الضعيف الرباطي" إلى سفينة تعرف ب"الكراكجية" صنعت من خشب حسان، نصفها لأهل الرباط ونصفها لأهل سلا(26)، ومما لا شك فيه، أن هذه المعلمة المهجورة شكلت مصدرا مهما لتزويد أوراش البناء برباط الفتـــح عبر العصور، وحول هذه النقطة ، يؤكد "جاك كايي" أن حجارة موحدية استعملت في بناء مسجد" مولينا" بالرباط ، والذي أقيــــــم في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ويعتقد أن هذه الحجارة تعود إلى جامع حسان، كما يعتقد أن المواد التي استعملت في بناء السور الأندلسي بالرباط، تعـــــــود هي الأخرى إلى نفس الأصل.
عموما وفي بداية القرن العشرين كان الجامع خرابا بامتياز، إذ كانت تكتسحه الأشجار والأعشاب الشائكة، وكانت أغلب الأعمدة ترقد على الأرض أو مدفونة تحت الأنقاض، وفي ظل هذه الوضعية المزرية، فقد أقام الأجانب المقيمين بالرباط بتهيئــة ملعب لكرة المضرب في الجزء الأقل اكتساحا بالأشواك ، والجامع اليوم لم تتبق منه سوى الأطلال : أرضية مبلطة كانت ستشكل بيت صلاة لو كتب للمشروع أن يكتمل تتخللها أعمدة أسطوانية مكونة من حلقات دائرية متراكبة فوق بعضها البعض حملت أو كانت ستحمل عقود وسقوف المسجد ، وبقايا سور وبدن صومعة عظيمة لم تتخد قط تتويجها النهائي كما الحال بالنسبة لشقيقتيها "الكتبية" و"الخيرالدا".. صومعة -رغم تأثيرات الزمن- لازالت مصرة على البقاء، وحدها تحمل خفايا وخبايا أكبر جوامع الغرب الإسلامي قاطبة وثاني جوامع العالم الإسلامي بعد جامع سامراء بالعراق ، ويكفي تأمل شموخ الصومعة وسمو زخارفها ، لاستحضار "عظمة" جامع لم تبق من عظمته سوى الأطلال ، لكن ورغم تأثيرات الزمن وتطور العمران لا زالت "حسان" أيقونة المعمار الديني الموحدي بامتياز ...
- مراجع معتمدة :
(1) عثمان عثمان إسماعيل ، تاريخ العمارة الإسلامية والفنـــون التطبيقية بالمغرب الأقصى، الجزء 3 ، ص 52.
(2) عبدالعزيز بن عبدالله ، مظاهر الحضارة المغربية ، 1958 ، ج2 ، ص 50.
(3) محمد المنوني ، حضارة الموحدين، دار توبقال للنشر، الدارالبيضاء، 1989، ص 12.
(4) ابن أبي زرع، الأنيس المطرب بروض القرطاس في تاريخ ملوك المغرب ومدينة فاس، نشر دار المنصور، الرباط، 1973، ص 269.
(5) سحر السيد عبدالعزيز سالم ، مدينة الرباط في التاريخ الإسلامي، مؤسسة شباب الجامعة،الاسكندرية ،1996، ص 140.
(6) عبدالعزيز التـــوري، حسان(جامع)، معلمة المغرب، الجزء العاشر، ص 3410.
(7) محمد المنوني ، حضارة الموحدين، مرجع سابق، ص 12.
(8) ابن أبي زرع ، مرجع سابق ، ص 229.
(9) عثمان عثمان إسماعيل ، مرجع سابق ، ص 165.
(10) ابن أبي زرع ، مرجع سابق ، ص 269.
(11) عبدالواحد المراكشي ، المعجب في تلخيص اخبار المغرب ، الدارالبيضاء 1978، ص 384.
(12) CAILLE(J) , La Mosqueé de Hassan a Rabat, (F .I.H.M) , Tome L VII , Paris 1954, p 15
(13) عبدالعزيز التـوري،
(14) عبدالله السويسي ، تاريخ رباط الفتح، الرباط، 1979، ص 126.
(15) المعجب، مرجع سابق ، ص 384.
(16) تاريخ رباط الفتح ، مرجع سابق ، ص 126.
(17) محمد بن علي الدكالي ، الإتحاف الوجيز في تاريخ العدوتين ، منشورات الخزانة العلمية الصبيحية ، سلا 1986، تحقيق مصطفى بوشعراء، ص 76.
(18) الاستقصاء، أحمد بن خالد الناصري، دار الكتاب، الدارالبيضاء، 1954، ج2، ص 195.
(19) المعجب عبدالواحد المراكشي، مرجع سابق ،ص 384.
(20) روض القرطاس ، ص 269، مرجع سابق .
(21) La Mosqueé de Hassan a Rabat,p17
(22) La Mosqueé de Hassan a Rabat,p17
(23) الإتحاف الوجيز ، مرجع سابق ، ص 76 .
(24) تاريخ رباط الفتح ،| عبدالله السويسي، ص 130 .
(25) "تقييد في بناءجامع حسان برباط الفتح" ، محمد بن علي الدكالي، التاريخ العربي ، ع 9، السنة 1999، تقديم وتحقيق نجاة المريني، ص119 وما بعدها.
(26) محمد بن عبدالسلام الضعيف ،تاريخ الدولة السعيدة، دار المأثورات، الرباط 1986، تحقيق أحمد العماري، ص 157.
* كاتب رأي،أستاذ التاريخ و الجغرافيا بالسلك التاهيلي (المحمدية) .