العدالة كلمةٌ ساحرة؛ كلمةٌ يكثُر استعمالُها، فيتّخذها السياسيُ شعارًا لحزبه؛ ويتّخذها المسؤولُ مسارًا لسياسته؛ ويتّخذها المواطنُ هدفًا لطموحاته وتحقيقا لآماله؛ ويرفعها المظلومُ يافطةً للتنديد بظلم لحقه، ويستعملها أهلُ النفاق والشقاق ستارا لإخفاء ظُلمِهم، وغيّهم، وسرقاتهم، ومكرِهم؛ وبالجملة، قد تكون العدالةُ كذْبةً بدلاً منها حقيقة.. قال كاتبٌ فرنسي عن لفظة العدالة إنّها [Un mot ronflant] لِـما لها من جَرْس، ووقْع على الأسماع؛ وقال فيلسوف الوجودية [جان بول سارتر]: [العدالةُ هي Une denrée trop rare]؛ ولعلّ هذه المقولة هي الأقرب إلى الصواب ممّا عداها؛ لكن دعْنا نرى معنى العدالة عند الفلاسفة..
العدالة في اللغة هي الاستقامة.. وفي الشريعة هي الاستقامة على طريق الحق، والبعد عمّا هو محظور؛ هي رُجْحان العقل على الهوى.. وفي اصطلاح الفقهاء، هي اجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، واستعمال الصّدق، واجتناب الكذب، وملازمة التقوى، والبعد عن الأفعال الخَسيسة.. والعدالة مرادفةٌ لـ"العدل" باعتباره مصدرًا، وهو الاعتدال، والاستقامة، والميل إلى الحق، وهو الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط: اُنظرْ (تعريفات الجرجاني).. والعدالة عند الفلاسفة هي المبدأ المثالي، أو الطبيعي، أو الوضعي الذي يحدّد معنى الحق، ويوجب احترامَه، وتطبيقه.. فإذا كانتِ العدالةُ متعلّقة بالشيء المطابق للحق، دلّتْ على المساواة والاستقامة؛ وإذا كانت متعلّقة بالفاعل، دلّتْ على إحدى الفضائل الأصلية، وهي الحِكمة، والشجاعة، والعفّة.. يقول [ابنُ مَسْكَويْه] في كتابه [تهذيب الأخلاق] صفحة (117) ما نصُّه: [وليستِ العدالةُ جزءًا من الفضيلة، وإنّما هي الفضيلةُ كلُّها]..
ويقول (نبيُّهم) [ماكياڤيلّلي]، أستاذ المكَرة، والكذَبة، والطغاة: [ليس المهمّ أن تكونَ عادلاً في سياستك، بل الأهمّ هو أن يُقال عنك ذلك، فإذا هم يقولون إنّ المسؤولَ يعاقِب الظالم، وينصف المظلوم، ويحنّ على الفقير، ويَعيد المريض، ويُطعِم الجائع، ويأخذ بيد اليتيم، حتى وإنْ كان الواقعُ يشهد بعكس ذلك من ظلم، وحيف، وشطط].. هذه السياسة عشناها مع حزب [العدالة والتنمية] حيثُ كانت العدالةُ هي ضربَ أقوات المواطنين، ونسْفَ صندوقَي المقاصّة، والتقاعد، ورفعَ الأسعار، والزيادة في الاقتطاعات.. كانتِ العدالةُ عند حزب [العدالة والتنمية] هي الدفاعَ عمّن هو متّهمٌ بجريمة قتْل، كانتِ العدالةُ عند هذا الحزب، هي الزيادة في تعدُّد التعويضات، ومحاولة ضخِّ [500] مليار في صندوق تقاعُد البرلمانيين، فيما صندوق تقاعُد الكادحين سائرٌ إلى هوّةٍ سحيقة، لينضاف المتقاعدون إلى طبقة الفقراء الواسعة أصلا، والمتزايدة أعدادُها كلّ لحظة وحين، وكلّما مُسَّتْ مصالحُ الواصلين، والمتحكّمين في الثروات، كان ذلك ظلمًا، وحيفًا، وجب الوقوفُ ضده؛ وكلّما نُسِفَت حقوقُ المواطن، كان ذلك عدلاً وفضيلةً.. يحْدث كلّ هذا أمامنا، وبدون استحياء، يتحدّثون عن التنمية، وعن محاربة الفقر، وعن العدالة الاجتماعية، فيما الأمّة سائرةٌ إلى الهاوية..
يقول الفيلسوفُ الفرنسي [هانري بِرْجسون: 1859 ــ 1941] في كتابه: [منْبعا الأخلاق والدّين]: [يقولون إنّ ثمّة مطلبًا عادلاً يثْوي وراء الواجب الأخلاقي كاحترام حقوق، وحياة الآخرين، فاستعرضوا في أذهانهم ما يجري في أزمنة الحرب، أيام يغدو القتلُ، والسلبُ، والخيانةُ، والكذبُ أمورًا تعْتبر عدالةً مباحة ومشرّفةً، وأيام يردّد المتحاربون ما كانت تردّده ساحراتُ [مَكْبِث]: [الحُمْقُ هو العدالة؛ والعدالة هي الحُمق.. ولكن يجب أن نفكّر في ما يصنعه الإنسانُ اليوم باسم هذه العدالة، لا أن نصغي إلى ما يقوله.. وا أسفاه؛ تحوّل الإنسانُ بعدالته، دون تحقيق هذه العدالة؛ إنها عدالةُ مظالم، ومصالح رأى أن يرعاها..]. لو دقّقْنا النظر جيّدًا، لألفينا أنّ أكثر الفلاسفة تعرّضًا للقتل، والسّجن، والنّفي، هم الفلاسفة المنادون بالعدالة، والـمُدينون للظلم السياسي والاجتماعي فتعرضوا لما تعرّض إليه الأنبياءُ قبلهم من ويلات..
إذا كانت القملةُ تنهُش جسدَكَ، وأنتَ تحكُّ جلدكَ طوال الوقت، ووصفوا ظلمهم بالعدالة الاجتماعية، فلا يجوز لكَ أن تسمح للقملة أن تفضح عدالتهم؛ بل يجب أن تعترف بعدالتهم، وتعلِّق إيجابيًا عليها لا منتقدًا لها، وأن تصف الواقعَ المزري بعكس ما تعانيه، وما تعبّر عنه القملةُ التي تتخذ جسدكَ مسكنًا.. إذا قالوا هذه هي العدالة، عليكَ أن تقول: [صدَقْتُم، هذه هي العدالةُ!]؛ هكذا، ستنجو من سيف عدالتهم، وحيثما جُلْتَ ببصرك، راعتْكَ مظاهرُها في كل مكان، وإذا كنتَ عاريًا، أو جائعًا، أو مشرَّدًا، أو عاطلاً، أو مظلومًا، فعليكَ أن تعزو ذلك إلى القسمة الإلاهية، وتقرأ في صمت: [ذلك فضْلُ الله يؤْتيه من يشاء]؛ وإذا اعترضْتَ أبدعوا لكَ تُهمةً على المقاس، وكان لعدالتهم فيكَ رأيٌ، إلاّ إذا ثُبْتَ، واعتذرتَ، وقلتَ: [نعم]؛ قال [أبو العلاء المعرّي]: [جَلَوا صارمًا وتَلوْا باطلاً ** وقالوا صدقْنا، فقُلنا: نعمْ]، نَعمتِ النُّعوم!