ما مِن أمّة كائنة ما كانت، لا يمكنها أن تربح رهانًا، أو تَكسبَ حربًا، أو تصمد أمام عدوٍّ وخزينتُها فارغة، وثرواتُها يعبث بها العابثون، ورعيتُها غاضبة من سياسة ولاتها.. فهل كان [عُمَر] رضي الله عنه، سيكسب حربَه ضد الروم، ومعركتُه ضدّ الفرس، وخزينة الأمّة خاوية على عروشها؟ هل كان [عُمَر] سيَكسب أيَّ رهان، لو كان محاطًا بمثل هذا البرلمان، وهو مشكّلٌ من أحزاب الانتهازية والهوان؟ هل كانت ستنجح سياستُه التنموية والاجتماعية، وهو محاطٌ بستّة وثلاثين حزبًا، وبحكومة من أربعين وزيرًا، وبحشد غثائي من الناهمين، وجوعى المناصب العليا، وفقراء الوطنية، والاستقامة، والتقوى؟ الجواب: كلاّ! ثمّ لله دَرُّكَ يا جلالةَ الملك، قلوبُنا معكَ، وسيوفنا عليهم، يوم تأمرنا بهم.. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [إذا كانت قلوبُكم ملْتفة حول رجُل واحد، وجاء من يريد أن يفرّقَ بينكم، فاقتلوه.].. وفي الانتخابات المقبلة، سنعمل على نسفهم سياسيا، وذلك أضعفُ الإيمان.. والآن سأستخرج لكَ كلّ أنواع الحقوق من تراثك المنسي.
يوم عيَّن [عُمَرُ] رضي الله عنه [سعْدَ بْن أبي وقّاص] كقائد للجيش في معركة [القادسية] ضد الفرس، كتبَ له كتابًا يقول له فيه: [إنّك ستلاقي قومًا أشدّاء، يفوقونكم في العدد والعُدّة، وليس لكم من فضلٍ عليهم إلاّ تقوى الله؛ فإذا تساويتُم معهم في المعصية، بقي لهم فضلُ العدد والعُدّة؛ فاتّقوا الله ينصُركمُ الله على عدوِّكم.].. هو نفس النداء الذي أطلقه جلالةُ الملك حين قال: [اِتَّقوا الله في الأمّة!].. لـمّا انتصر المسلمون في معركة [القادسية] الدّموية، وقد عرفتْ ثلاثة أيام رهيبة، وليلتيْن، وهي يوم [أرْماث]؛ ويوم [أغْواث]؛ ويوم [عَمَاس]؛ وليلة [الهرِير] حيث كانت أنّاتُ الجرحى تُسمَع من بعيد؛ وليلة [الصّليل] حيث كانت معركةً طاحنة، وكان التقاءُ السيوف يُحْدِث شرارات نارية، تضيء ميدانَ المعركة ليلا؛ وفي الصباح، اكتسح المسلمون إيوانَ (كِسْرى)، فعثر [سُراقة] على سِوار (كِسْرى) كما وعده رسولُ الله ليلة الهجرة، فأسلم بعدما كان يطارد النّبيَ الكريم، فهتف: [صدق رسولُ الله؛ صدق رسولُ الله].. قد يسأل القارئ الكريم: [إلى أين تريد أن تأخذَنا بهذا التاريخ يا هذا؟]؛ وجوابي هو: [أريد أن أُطْلِعَكَ على مظاهر النزاهة، والاستقامة، والبعد عن الطمع، والانتهازية]؛ كيف ذلك؟
لـمّا دخل المسلمون إيوانَ (كِسْرى)، لم يمارسوا النهبَ والسلبَ، ولم يلهفوا الأشياءَ كما لهف البرلمانيون الحلوى، بعد الخطاب الملكي السامي، لغياب الحراسة؛ بل جمعوا الغنائمَ بعد إحصائها، لتُنقَل إلى (بيت مال) المسلمين.. وبعد رحلة طويلة وشاقّة، وصلتِ القافلةُ إلى (المدينة)، وكان في استقبالها [عُمَرُ] وحشدٌ كبيرٌ من القوم، فأمر [عمَرُ] بإعادة الإحصاء، وبدأ أعوانُه بالعملية حتى النهاية، فلم يُسَجَّلْ أيُّ نقص أو خطإ، فكانت الوثائقُ مضبوطة ومدقّقة؛ فنادى [عُمَرُ] على [سُراقة] قائلا: [يا سُراقة؛ هذا السِّوارُ من نصيبكَ، فقد وعدكَ به رسولُ الله.]؛ فأجاب [سراقة]: [صدق رسولُ الله، ولكنّ (بيت المال) أولى به منّي، يا أميرَ المؤمنين.].. وضع [عُمَر] يديْه على عينيْه، لأنه كان يبكي خِفيةً؛ فوضع أحدُهم يدَه على كتف [عُمَر] وقال له: [هَوِّنْ عليكَ يا أمير المؤمنين؛ فما الذي يُبكيكَ وقد نصرنا الله على أعدائه؟]؛ فقال [عُمَر]: [يا سبحان الله، حتى الإبرة أحصوْها؛ فكيف لا ينصرُ الله هؤلاء لأمانتهم، وتقواهم؛ فلو أرادوا خلْعَ الجبال لخلعوها]..
فاضَ (بيتُ المال) بالخيرات، وكان المسلمون لا يتلكّؤُون في دفع الزكاة في موعدها، وليس كالمتهرِّبين من دفْع الضرائب عندنا التي يدفعها قهرًا البسطاءُ؛ فزاد [عُمَرُ] في رواتب الجنود، وأعوان السلطة، كما زاد في تقاعُد المتقاعدين من عجزة، وكتّاب الوحي، كما رفع من أعطيات زوجات النبي عليه السلام، وليس كالذين بخسوا المتقاعدَ حقَّه، وخصموا الثلثَ من راتب تقاعُده، فيما يدافعون عن تقاعُد البرلمانيين، ويرفعون من اقتطاعات الموظّفين، ويُلهِبون الأسعارَ، ويشرِّعون تشريعات تسحق المواطنين، وهم ممّن ادَّعوا [الدعوةَ إلى الله] كذبًا وبهتانًا.. ثم يتحدّثون عن حقوق الطفل، وحقوق المرأة، ولهم في سيدنا [عُمَر] إسوةٌ لو كانوا صادقين.. كان [عُمَرُ] كلّما بلغَ الفطامَ صبيٌ كتبَ له مبلغًا بعد الفطام؛ فصارتِ الأمّهاتُ يَفطمنَ أولادَهنَّ قبْل وقت الفطام، ليَنَلْنَ تعويضات من (بيت المال)؛ فبلغ الأمرُ إلى [عُمَر]، فجعل هذه التعويضات من حقِّ كل مولود بمجرّد أن يولد.. وماذا عن حقوق المرأة بعد حقوق الإنسان، والطفل، وإلى ما هنالك؟ أخرجَ عن ابن جُرَيْج قال: [أخْبرني من أصدِّقه أنّ (عُمَر) بينما هو يطوف، سمع امرأةً تقول:
تَطاولَ هذا الليلُ واسودَّ جانِبُه ** وأرّقْتَني أنْ لا خليلَ أُلاعبُه
فلولا حذار الله لا شيْءَ مثْله ** لزحْزح مِن هذا السّرير جوانبُه
فقال لها [عُمَر]: [ما لَكِ؟]؛ قالتْ: [أغْزَيْتَ زوجي منذ أشهر، وقدِ اشتقتُ إليه.]؛ فقال: [أردتِ سوءًا؟]، قالتْ: [مَعاذَ الله.]؛ فقال: [اِمْلكِي عليكِ نفْسَكِ، فإنما هو البريد إليه]؛ فبعث إليه، ثم دخل على ابنته (حفْصة)، فقال لها: [إنّي سائلُكِ عن أمرٍ قد أهمَّني فافْرجيه عنّي؟ كم تشتاقُ المرأةُ إلى زوجها؟]؛ فخفضتْ (حفصةُ) رأسَها واستحيتْ؛ فقال لها (عمرُ): [إنّ الله لا يستحي من الحقّ]؛ فأشارتْ بيدها: ثلاثة أشهر، وإلاّ فأربعة أشهر؛ فكتب (عمرُ) أنْ لا تُحْبَس الجيوشُ فوق أربعة أشهر.. وذات يوم كان يطوف في سوق، فرأى متسوِّلا يمدُّ يدَه و(عُمر) يكره ظاهرة التسوّل؛ فسأل الحاشيةَ: [ما هذا؟]؛ قالوا: [يهوديٌ يا أميرَ المؤمنين]؛ قال (عُمَر): [كيف، أخذتُم منه الجِزيةَ يوم كان شابّا، وتركتُموه عندما أصبح شيخًا]؛ فمتّعه أميرُ المؤمنين براتب شهري من (بيت المال).. و(عمرُ) كان لا يتعجّل في تنفيذ الحدود، آخذًا بوصية النبي الكريم إذ قال: [اِدْرَؤُوا الحدودَ بالشّبهات]، و(عمَرُ) ما رجمَ يوما زانيًا أو زانيةً؛ ولا قطع يوما يدَ سارقٍ أو سارقة. كان (عمَرُ) قائدا ملهَمًا وسياسيا متفتِّحا إذ كان يفيد من خِبْرات مَن هم ليسوا بمسلمين في ميادين الإدارة، والصّيْرفة، والتجارة، والفلاحة، والصناعة، من رُوم، وفُرْس، وهنود، وغيرهم؛ لذا نوّه بسياسته مؤرِّخون من عرب وعجم.. ذُكِرَ في أكثر من مرجع، أنّ ابْنًا لعُمَر دخل عليه، وقد ترجَّل ولبس ثيابًا حسانًا، فضربه (عُمَرُ) بالذِّرَّة (أي السَّوط) حتى أبكاه؛ فقالت له ابنتُه (حفصة): [لِمَ ضربْته يا أبتاه؟]؛ فردّ عليها: [رأيتُه قد أعجبتْهُ نفسُه، فأحْبَبْتُ أنْ أصغِّرها إليه]؛ وهذا ما قام به جلالة الملك، عندما أعفى زعماء أحزاب، ووزراء من مهامّهم، أعجبتْهم أنفسُهم، وكانوا يعتقدون أنهم فوق الحساب، والمساءلة، فصغَّرها لهم جلالةُ الملك، وخلعهم ليكونوا مثلهم مثْل سائر خلْق الله من المواطنين أمام القانون والمحاسبة.. فما أحوجَنا اليوم، والحالةُ هذه، لسياسة (عُمَر).. رحم الله (عُمَر) وأسكنه فسيحَ جنّاته على ما سقاه للبلاد والعباد، وقد كانت فترةُ حكْمه، حقبةَ أمنٍ، واستقرارٍ، وعدالةٍ اجتماعية فقدتْها الأمّةُ بعد وفاته..