بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
مما لا شك فيه أن الفلسطينيين غاضبون جداً مما يجري في منطقتنا العربية، وغير راضين عما آلت إليه قضيتهم ووصلت إليه مسألتهم، ويؤسفهم كثيراً الدرك السحيق الذي انحدرت إليه، والواقع المرير الذي يعيشه شعبهم، وتعانيه فصائلهم، وتشكو منه قيادتهم، وتئن تحته منظمتهم، ويقلقهم الأفق المغلق والحلول العدمية، وتعذر التحرير وصعوبة المرحلة، وقسوة الظروف وارتفاع الكلفة وجسامة التضحية.
ويؤلمهم استفراد العدو بهم، وانشغاله بهم وحدهم، وظلمه لهم، وبطشه بشعبهم، واعتدائه عليهم، ومحاولته تصفية قضيتهم وإنهاء حلمهم، وتمزيق أرضهم وتفتيت وطنهم، والسيطرة إلى الأبد على أرضهم التاريخية ووطنهم السليب، إذ يشعر بالغطرسة ويزهو بالقوة، ويختال بالحلفاء ويفخر بالمدد والمساندة، ولا يخشى الجوار ولا يقلق من جيوشهم، ولا يخاف من المصنفين أعداءً، ولا يأبه بمن يهدد وجوده ويتوعد مصيره.
ويحزنهم كثيراً انهيار السدود العربية، وسقوط قلاع المقاومة وجبهات الصمود، وتردي مفاهيم الأخوة ومعاني التضامن، وتلاشي نظريات الوحدة وأفكار المواجهة، وتراجع الأنظمة العربية عن ثوابتها القديمة ومبادئها الأولى، وتخليها عن لاءاتها التاريخية ووعودها القومية، وسقوطها في أحضان العدو وخضوعها له، وثقتها فيه، واطمئنانها إليه، وتحالفها معه، وتعاونها وإياه على تصفية القضية الفلسطينية تصفية نهائية وأخيرة، وهو الذي كان يخشى العمق العربي، ويهاب الشعوب العربية، ويتخوف من آمالها وأمانيها، ويضطرب من يقين عقيدتها الراسخة وثقتها بالنصر المطلقة.
لكن المواطنين العرب في غالبهم الأعظم غاضبون أيضاً، ومنزعجون مما تفعله حكوماتهم، ومما تقوم به أنظمتهم، ويحزنهم تقصيرها ويؤلمهم إهمالها، ولا يقبلون بتخليها عن القضية الفلسطينية وتنكبها للفلسطينيين وهمومهم، وصمتها عن حصارهم، ومشاركتها في التضييق عليهم، أو امتناعها عن الدفاع عنهم ورفع الظلم الواقع عليهم، ولا ترضيهم الخروقات التي قامت بها أنظمتهم، ولا التنازلات التي أقدمت عليها حكوماتهم، ويعتبرون أن ما قاموا به إنما هو عيبٌ وحرامٌ، وجريمةٌ ومنقصة، وهو خضوع واستسلامٌ، وتبعيةٌ وانقيادٌ، وتنفيذٌ للأوامر ذليلٌ، وطاعةٌ مهينةٌ لقادة دول الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وتوظيفٌ خائنٌ لهم، وتشغيلٌ مشبوهٌ لحكامهم، وهم بهذا لا يمثلون شعوبهم ولا يعبرون عن إرادة أمتهم، وإن كانوا قادتهم وحكام بلادهم، إذ لا تنسجم سلوكياتهم مع موروثات الأمة القومية والعقائدية، ومفاهيمها الثورية وتضحياتها الوطنية.
المواطنون العرب يشعرون بالخزي والأسى والحياء والخجل، ولا يتردد كثيرٌ منهم في التعبير عن مواقفهم الرافضة، وإبداء امتعاضهم الشديد واستيائهم البالغ مما قامت به حكومات بلادهم، التي أدخلت قادة العدو إليها، ومكنت جنوده من الخوض فيها والجوس في ديارها، ولا ينفكون يطالبون حكوماتهم بالكف عن هذه السياسات، والتوقف عن المضي فيها، فهي ليست من شيمهم ولا تعبر عن أخلاقهم، بل إنها نكسة لهم، ولعنة حلت عليهم، وفضيحة لا تنفك عنهم، فاللقاء مع العدو الإسرائيلي سبةٌ في جبين من يلتقيهم، وعارٌ يلطخُ شرف من يصافحهم، ويوم استقبال قادته وجنوده في بلادنا العربية سيكون طامةً على من استقبلوهم ورحبوا بهم، وعلى الذين سهلوا زيارتهم وأعدوا لها.
بعض المواطنين العمانيين أعلنوا براءتهم مما قام به سلطان بلادهم، وأظهر كثيرٌ منهم غضبهم وانزعاجهم، وشعروا بألمٍ كبيرٍ من مظاهر البشاشة والترحاب التي حظي بها الوفد الإسرائيلي، والحفاوة البالغة التي لقي بها السلطان قابوس ضيفه رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، وهالهم من قبلُ استقباله في بلادهم، وصدمتهم زيارته إليهم، وأحرجتهم صوره في قصر سلطانهم، وتجواله في أرجائه، ووقوفه إلى جانب السلطان في أنحائه، ولم ترضهم تصريحاته عندهم ومواقفه بينهم.
ومما أحزنهم بعد ذلك قيامُ يوسف بن علوي وزير خارجية سلطنتهم بزيارة فلسطين المحتلة، ولقاؤه مع رئيس حكومة العدو وكبار مساعديه، بحجة الوساطة بينهم وبين الفلسطينيين، والإعلان الجديد الذي تلا الزيارة بأيامٍ، والذي ذُكر فيه عزم وزير المواصلات الإسرائيلي يسرائيل كاتس زيارة عُمان، ولعل بعض النساء العمانيات صرخن عندما سمعن وزير خارجية بلادهن يقول "إسرائيل دولةٌ من دول الشرق الأوسط"، وأعلنَّ أنهن مسلماتٌ عربياتٌ حرائرٌ، لا يقبلن بمن يعترف بالعدو صديقاً، ولا بمن يقر بالمعتدي جاراً.
والحال نفسه في دولة الإمارات العربية المتحدة التي زارتها وزيرة الرياضة الإسرائيلية الإرهابية ميري ريغيف، ومعها الوزير أيوب قرّا، إلى جانب فريقٍ كبيرٍ من الرياضيين الإسرائيليين.
وكذا دولة قطر التي دخلها رياضيون إسرائيليون هم جنودٌ في أصلهم، وإرهابيون في فعلهم، يقاتلون في صفوف جيش العدو المحتل لأرضنا والغاصب لحقوقنا، الأمر الذي أثار الغيورين وأغضبهم، وحرك الصادقين ودفعهم، فعلت أصوات مواطني البلدين الغاضبة، وتغريدات أبنائهم الثائرة، ممن لم يرضوا عن فعل حكوماتهم، ولم يقبلوا السكوت على تفريط حكامهم، وزاد في حنقهم وغضبهم تجوالُ الوزيرة الإسرائيلية في أحد أكبر مساجدهم، وهي التي تحتقر العرب وتمتهن المسلمين، وتدعو إلى قتل الفلسطينيين ومحاربة المسلمين، والتي سبق لها أن أهانت المسجد الأقصى وانتهكت حرمته، وتطاولت على قبته المشرفة، فلبسته في مهرجانٍ ماجنٍ ثوباً، وجعلته ذيلاً لفستانها وزينةً لثيابها.
لا يكاد المواطنون العرب يصدقون أن أنظمتهم فتحت للعدو أبواب البلاد، وشرعت لهم الدخول إليها، ومنحتهم الحق بالتجوال والإقامة فيها، وسمحت لهم بالعمل والتجارة، وبالسياحة والرياضة، وأعلنت استعدادها للاعتراف بكيانهم والقبول به جاراً وشريكاً، وقد صدمتهم الصور، وهزتهم الوقائع والحقائق، رغم أنهم كانوا يعرفون أنها علاقاتٌ قديمةٌ وتفاهماتٌ متينة، حدث بعضها في السر والخفاء، والآن جاء وقت الإعلان عنها والظهور بها، لكن المجاهرة بالمعصية كانت أكبر من الجريمة، والابتهاج بها كان أعظم من الإساءة.
المواطنون العرب، الوطنيون الشرفاء، المسلمون والمسيحيون الأصلاء، أهل الأرض وورثة الحق، يصرخون بغضبٍ في وجه حكوماتهم وأنظمتهم، ويرفعون أصواتهم ضدهم محذرين ومهددين، ماذا دهاكم، وما الذي أصابكم، اعلموا أنه لا سلام مع القتلة، ولا مصالحة مع المحتلين، ولا مفاوضات مع الغاصبين، ولا اعتراف بكيان المستوطنين، فهل كفرتم بقرآنكم أم كذبتم رسولكم، أم خنتم دماء الصحابة وعهود الخلفاء، إن من يخون الأمانة يهلك، ومن يفرط في العهد يهون، ومن ينقلب على أمته يذل، ومن يتحالف مع عدوه يستعبد، ومن يخضع يخنع، ومن يركع بالموت يُفجع.