نحن عندما ندرس التاريخ، لا يكون الهدف منه استنساخ أحداثه أو اعتماد حرفيا سياسةً اعتُمِدت في الزّمن الغابر، فنَسْلكها نحن في الحاضر، وإنما الهدف من مراجعة التاريخ، هو اتخاذ العبرة، ومعاينة كيف تعاملَ الأوائلُ مع أية أزمة سلبًا وإيجابًا، حتى خرجوا منها، وكيف أخطأ آخرون في تعامُلهم حتى تفاقمتِ الأزماتُ واشتدّتْ، فتمزّقتِ الأممُ بسببها، وحميتْ نيرانُ الفتن، ويُجْمِعُ فلاسفة التاريخ حين يقولون: [مَنْ يجهلُ تاريخَه، معرّضٌ لارتكاب أخطائه مجدّدًا]؛ وهذا ما نريد تلافيه، ونحن ندرس التاريخ، ونتعمّق فيه بالعقل، و[العقل هو وكيل الله عند الإنسان.]، كما يقول (الجاحظ).. والقرآن الكريم، يقصّ علينا قصصًا من تاريخ أممٍ سادت ثم بادتْ، فيذكّرنا بأفعالها، وأحوالها، وأخطائها؛ ونحن نسأل: لماذا؟ قد يندهش السيد القارئُ الكريم، وهو سيّد العارفين، إذا ما قلتُ له إنّ التاريخ جزءٌ من الفلسفة؛ فالتاريخُ لا يُطرَحُ إلاّ للإنسان باعتباره كائنًا تاريخيا، ذا أبعاد ثلاثة: الحاضر، وهو اللحظة المعاشة؛ والماضي، وهي فترة انفلتَتْ من الإرادة، وصارت زمنًا لا يمكن التحكُّم فيه؛ والمستقبل، هو الفترة التي تُطرَح فيها الآمال، وتكون مليئةً بالقلق، والخوف من المجهول، والمشحونة بإمكانيات عدة، تجعل الإنسانَ يحتار في اختيار أجودها ومن ذلك يتولّد القلقُ حسب فلاسفة (الوجودية).. من هنا تأتي أهمّيةُ وقيمةُ دراسة التاريخ..
كان [ماكياڤيللّي] يعلّم الساسيين طُرقَ المكر، والكذب، والخديعة؛ ولـمّا درسَ التاريخ، أدرك أنّ أحداثًا جرتْ رغم الأكاذيب، والخديعة، والانتهازية؛ فصحّحَ وقال في أواخر أيّامه: [اِحْذروا مكْرَ التاريخ؛ فلا مستحيل في التاريخ]؛ وهذا ما نقوله اليوم للانتهازيين، والكذّابين، والعابثين بمستقبل هذه الأمّة، والمتخاطفين على موائد الحلوى في البرلمان، والمصوّتين على قانون مالي يخزّن اليأسَ، والتذمّرَ في بواطن المواطنين، خدمةً للّيبراليين المتوحّشين، وحفاظًا على امتيازات، وبذْخ الأكَلة، وأصحاب البطون المتدلّية على الأفخاذ، لفرط الشهية الحيوانية إلى درجة البِطْنة التي تؤدّي إلى إذهاب الفِطْنة؛ ففي يوم يرونه بعيدًا بسبب غشاوة على أبصارهم، لن ينفعهم مالٌ جمعوه، ولا ذَهب كنزوه، ولا كذب اعتمدوه، وهو ما حذّر منه فلاسفةُ التاريخ، وأكّدته أحداثٌ بالملموس؛ ولكنْ بعد فوات الأوان..
لا بأس في هذه المقالة من ذِكْر بعض مواقف رجال كانوا يحْذرون مكْرَ التاريخ، ولا يتجرّؤون على لهف قطعة حلوى والأمّة فيها مشرَّدون، وفقراء، وجياع، الله يسمع أنّاتِهم ويلعن آكلي الحلوى بدون وخْز ضمير، فبشّرْهم بعذاب أليم.. سنخصُّ بالذكر رجلاً عظيمًا نوّه بأفعاله، وسياسته، عربٌ وعجمٌ، مسلمون، ويهود، ومسيحيون؛ ولعلّه الوحيدُ الذي ذُكِر في كتاب [الخالدون مائة..]؛ رجلٌ ما أجرى الله خيرًا على يَدَيْ مَن سبقه، أو أتى من بعده، وأعني به أمير المؤمنين [عُمر بن الخطّاب] رضي الله عنه وأرضاه، فما لهف يومًا حلوى لأسرته من (بيت مال) الأمّة؛ وما لهف راتبًا شهريًا سُحْتًا وباطلاً؛ وما تهرّب بالكذب يومًا من المسؤولية، بل كان شعارهُ: [يا ليتَ من ولدتْ عمر، قتلتْه في سِنّ الصّغر] لعِلْمِه بخطورة المسؤولية التي يتهافتُ عليها الأكلةُ لجهلهم بنهايتها الوخيمة.. [عُمر] جعله الكاتبُ الأمريكي، عُضْو لجنة الفضاء في (الكونغريس) ضمْن (الخالدين المائة)، وألّف عنه الكاتب [عبّاس محمود العقّاد] مؤلَّفًا بعنوان [عبقرية عمر] ضمْن سلسلته [العبقريات الإسلامية.].. لم يكنِ الناسُ راضيـنَ بتولّي [عُمر] الخلافةَ، وكانوا مُخْطِئين لا ريب؛ فيوم استخلفه [أبو بكر الصديق]، قيل له: [ماذا تقول لربّك، وقد ولّيتَ علينا رجلاً فضّا، غليظَ القلب؟]؛ لكنهم فوجِئُوا بالرجل وهو يقول: [أحبُّ الناس إليَّ، مَن رفع إليّ عيوبي.]؛ أليستْ هذه قمةَ الديموقراطية، وحرية التعبير؟ لكنْ ما قصةُ [عمر] مع الحلوى يا ترى؟
أخرج عن أبي أمامة بن سهل بن حُنَيْف قال: [مكث (عُمر) زمنًا لا يأكل من مال بيت المال شيئًا، حتى دخلتْ عليه خصاصةٌ، فأرسل إلى أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، فاستشارهم، فقال: قد شغلتُ نفسي في هذا الأمر، فما يصلح لي منه؟ فقال (عليٌّ) كرّم الله وجهه: غَدَاءٌ وعَشاء؛ فأخذ بذلك (عُمر).].. لكنْ ذات يوم، اشتهتْ زوجتُه وعيالُه الحلوى، فطلبتْ من زوجها (عُمر) أن يشتريها، فردّ عليها قائلاً: [مِن أين بثمن الحلوى أشتريها؟!]؛ فقامت الزوجةُ بالاقتصاد، حتى وفّرت ثمن الحلوى، فناولتْ ثمنَها (عُمر)، فقال لها: [مِن أين لكِ بثمن الحلوى؟]؛ فردّتِ الزوجةُ: [قمتُ ببعض التوفير من دَخْلنا]؛ فقال لها (عُمر): [بما أنكِ وفّرتِ ثمنَ الحلوى، فهذا دليلٌ أننا نأخذ أكثرَ من حقّنا من (بيت المال).]؛ فأخذ ثمن الحلوى وردّه إلى (بيت مال) المسلمين.. قال بيانُ البرلمان إنّ لاهفي الحلوى، لم يكونوا برلمانيين؛ فمن يكونون إذن؟ فهل منظّف القاعات أو الشّطاب، هو من كان يرتدي اللباسَ القومي، وبيده الحلوى، وهو يَغُذّ السّيرَ نحو سيّارة (المرسديس) السوداء؛ يا لها من كذبة!؟