الحسين أخدوش.
"إنّ هذا الحيوان البشري مركّب على أن لا يكون فاضلا عفيفا إلاّ بعيب فيه" أناتول فرانس
النّص:
تُبرز الاستعارة الشهيرة في «الأمير»، عند ميكيافلي، الخاصّة بالحيوان الخرافي المسّمى "القنطور" (كائن خرافي نصفه إنسان، نصفه حيوان) ذلك الجانب الحيواني والهمجي للسياسة التي ينبغي على الأمير أن يتعلّم كيفية توظيفها؛ حيث الطبيعة الشريرة الفجّة للناس هي ما يفرض نهجها.
يتبادر إلى ذهن كل قارئ عادي، عندما يقرأ لأوّل مرّة كتاب «الأمير»، مجموعة من التعبيرات التي تقدم نظرة سوداوية متشائمة للطبيعة البشرية. وهنا يمكن أن نُدْرِج مجموعة من المقولات الدالة على ذلك، ومنها: «طبيعة البشر تتغير ومن السهل إقناعهم بشيء ما، لكن من الصعب ترسيخ هذا الإقناع لديهم»؛ ثمّ «بصفة عامة يمكن أن نقول عن البشر ما يلي: إنهم كافرون بالنعمة، ناكرون للجميل، متغيّرون، متصنّعون، منافقون، وجبناء أمام المخاطر». إنّهم «جشعون للكسب والربح، وللاغتناء»؛ «ومادمت تقدم لهم الجميل، فإنّهم دائما في خدمتك، ومستعدون ليقدموا إليك دماءهم، ممتلكاتهم، وحياتهم، وأولادهم إذا ما كنت في غنى عنهم. لكن عندما تكون في حاجة لهم، فهم يتغيرون عنك فجأة». إنّ «الناس ينسون بسرعة موت أبيهم أكثر ممّا ينسون فقدان ممتلكاتهم»؛ فهم «في غاية البساطة، بحيث يخضعون، يستجيبون، يطيعون ضروريات الوقت الراهن، ومن يُخدع سيجد دائما من يَخدعه». فمادام «الأمير يحاول الغزو والحفاظ على دولته، فإنّه يَحكم دائما على الوسائل على أنها شريفة، ولسوف يشيد الجميع بذلك لأنه غالبا ما يتم الأخذ بالمألوف المتداول من قبل ما يظهر ويتضح انطلاقا من نتيجة ذلك الشيء؛ وفي العالم كله ليس هنالك سوى المألوف».
وتجدر الإشارة إلى أن هذا المفهوم المتشائم للطبيعة البشرية ليس، على أيّة حال، بالأمر الجديد. ذلك أنّ التقاليد المسيحية، من سان بول إلى لوثر مرورا بالقديس أوغسطين، لم تكن لتفوت الرؤى المتشائمة جدّا حول الإنسان؛ فما لم يشمله خلاص الرحمة الإلهية، فإنّ عقيدة الخطيئة الأصلية هي ذاتها ما يتم التفسير باستعمالها في هذا السياق. يكمن جديد ميكيافلي، بهذا الخصوص، في جعل هذا الحدس المتشائم للغاية للطبيعة البشرية بمثابة ركيزة ضرورية للممارسة السياسية؛ وقد أفضى هذا الأمر إلى ولادة ما سوف يسمى، فيما بعد، «المذهب السياسي»: أي أنّ « كل من يريد تأسيس دولة وإعطائها (يكتب في «الحوارات») ينبغي عليه أن يعتبر الناس أشرارا، وأن يكون دائما مستعدا ليبيّن شرّهم في كل مرّة يجد فيها الفرصة لفعل ذلك.
لكن ما هي الجذور الثقافية والأسباب النظرية لتشاؤم ما؟ الواقع أنّه لم يَكُن ميكيافليي فيلسوفا، أو منظرا للسياسة بالمعنى التقني والأكاديمي للمصطلح، وإنّما كان دبلوماسيا، بيروقراطيا مُكرها بظروف عمله، ومعرّضا لتحديات مهنته. لكن بالرغم من ذلك، فإذا انطلقنا من المناورات السياسية، والعدد الكبير من الأمثلة التاريخية التي تشكل بنية هذه المحاور، فإنّه بإمكاننا أن نستنتج تصورا للسياسة وللإنسان (بالخصوص) كاملا ومتناسقا. والواقع أنّنا نجد بعض مظاهر المذهب الطبيعي الكلاسيكي [ للسياسة] متشابهة، عندما نقرأ القصيدة الكبيرة التي تدور حول الطبيعة للشاعر لُوكْرِيسْ، والتي اعتبر ميكيافليي، انطلاقا منها، العالم أزليا وأبديا.
ويعتبر ميكيافلي أولّ مفكر سياسي يلقي نظرة بذكاء فريد على بدايات الحضارة التي رآها طويلة، غير متناهية، شاقة، وغير مؤكدة، ممّا يوحي بالتوافق مع القصص الإنجيلي، ويستدعي فكرة الخلق. ونجد في كتاباته أنّ الإنسان ليس كما تريده المسيحية النصرانية، وذلك بأن يخلق على صورة مشابهة للرب، فهو ليس مركز ونهاية الخلق، بل هو عنصر من كون صعب و(مخاتل)، ذاك الذي لا تدعمه أي عناية إلهية ولا أيّة حماية لاهوتية.
لقد رسم ميكيافلي في إحدى الصفحات المهمّة من «حواراته» كيفية تشكّل المجتمع الإنساني، واعتبر البشرية حيوانية تتحسّر، فقط، على احتياجها الأساسي للدفاع عن نفسها، وبحث مصلحتها الخاصة، بالبحث شيئا فشيئا عما يؤسّس حياتها المدنية دون تدبير أو إرشاد من طرف أيّ عقلانية عليا. يتخذ الفكر صيغة نفعية فضيعة: مادامت معرفة العدالة منبثقة من حسابات أولئك الذين لديهم مكانة تمكّنهم من وضع القوانين والعقوبات، حيث ينبغي لهم الدفاع عن أنفسهم ضد مكائد الغير. نجد، أيضا، في «الحوارات» أنّ السياسة المعنية، في بعدها الأنثروبولوجي خلال البدايات الأولى للحضارة، هي بمثابة إجابة لاحتياج أساسي للأمن والدفاع. كما يوجد في كتاب «الأمير» تفكيرا في المنطق الذي يمكن أن يدعم العمل الفردي، أو عمل الدولة في هذا السياق؛ ولقد جاء ميكيافلي بتصوّر للسياسة بعيد عن المثاليات الكونية (إمبراطورية شارل كينت)، والمتزمّتة (نزعة الفتور لإيراسموس الروتردارمي) التي لازالت قائمة في أوروبا الجديدة (العهد الجديد).
إنّ السياسة، بالنسبة لميكيافلي، متضاربة بنيويا؛ لذلك، تعتبر في تأسيسها النهائي علاقة غالبا ما يظهر فيها الفائزون والمنهزمون، رجال وأفراد يأمرون، ثمّ آخرون يطيعون، رجال يريدون الحفاظ على التوازن القائم، وآخرون يريدون الإخلال به (إسقاطه). وبالرغم من ذلك، فإننا نجد في هذه الرؤية النظرة المتشائمة، وفي بعض الأحيان، اليائسة من الإنسان ومن مصيره. إنه لم يعد هناك سوى المنفعة، وهذه الأخيرة هي الوحيدة المحتملة التي تنبثق من المجتمع المدني (أي من المدينة بالمعنى الضيق للكلمة) من خلال وساطتها.
هكذا، قضى النزوع الطبيعي الجذري الذي ارتضاه لنفسه بأن تكون المجتمعات البشرية مجرّد أجساد ضمن أجساد، وهذا ما يفيد خضوعها للمصير الفيزيولوجي للجسد القاضي بحتمية المرور من لحظة الولادة والنمو ثمّ التحلّل في النهاية. لكن، باندثار الهيئات الاجتماعية وعبرها المجتمعات البشرية والدول والولايات، وهي قضية لم يسبق الإلمام بها في التفكير السياسي الكلاسيكي؛ حيث كانت الدول تعتبر كيانات أرادها الإله أن تكون من أجل التنمية البشرية، بالتالي من المحتمل أن تكون أزلية وأبدية. كانت وفرة الاستعارات المستمدة من عهد الطبيعة لا تشكل فقط ميزة فعّالة للأسلوب البليغ لميكيافليي، وإنّما كانت الطبيعة، بالنسبة إليه، تميل إلى أن تكون نموذجا أصيلا لفهم الطبيعة.
الواقع أنّ استعارة "القنطور" السابقة: نصف إنسان، نصف حيوان، هي بمثابة التمثيل الناجح لحيوانية الكائن البشري الذي يُبرز الخلفية الحيوية الوحشية للفعل السياسي، حيث ينبغي للأمير تعلّم كيفية استخدامه. وبهذه المناسبة، يعتبر ميكيافلي المسيحية غير قادرة على الوصول للعمق المظلم والمجهول والحيواني للطبيعة البشرية، على خلاف القدماء الذين فهموها كأسطورة يمكن أن تقدم حكمة سياسية ضمنية.
كان ميكيافلي، في مجمل ما كتبه، مأخوذا بطرح إشكالية الدين سواء في معناه أو قيمته في حياة الدول، واعتبره العنصر الثقافي الذي يظهر أنّه قد انتهت صلاحيته في العالم المعاصر خاصّة. وتوضيحا لهذا الأمر أكثر، قَدّر ميكيافلي الدور الذي تلعبه الأديان في المجتمعات البشرية اعتبارا من كونها عاملا ضروريا للتلاحم الاجتماعي، وكذا لتحقيق الذات والعدالة الاجتماعية واحترام القانون. إلاّ أنّه وبالرغم من ذلك، نجده أيضا ينتقد بشدّة الديانة المسيحية غير القادرة، في نظره، على أن يكون لها نفس الدور الذي كانت تلعبه تلك الطوائف الوثنية في العصور القديمة، حيث الإشادة بالحياة التأملية على حساب الحياة العملية، وكذا الإشارة إلى وجود مؤشر مكافأة إلهية التي تكون من نصيب المهزومين أكثر من المنتصرين. وإنّه مع انخفاض قيمة الجد الراقي، فقد انتهت الديانة المسيحية كذلك، كما يشير إلى ذلك ميكيافلي، إلى مجرّد تعليم حكمة: «كم هو مؤلم أن تقول ما يؤلم»، وهي الحكمة عينها التي جرّدت العالم المعاصر من كلّ فضيلة مدنية، فانتهى به المطاف ليصبح مرتعا للمارقين.
هكذا، إذاً، نفهم من المنظور التاريخي حُكْمَ الإدانة الذي أصدرته الكنيسة الرومانية ضد ميكيافلي دون استئناف انطلاقا من المؤشر الأول لسنة 1559م. ولعلّ الأهم بخصوص هذا الحدث أنّ منطق كتاب الأمير الصريح، والبعيد عن الوهم، هو ما ساهم في فسح المجال أمام إجراء مناقشة هادئة للسياسة ولما يمكن للناس أن ينتظروه منها، وذلك بمنأى عن الأديولوجيا.
*المقال باللغة الفرنسية في المجلّة الفرنسية "الملاحظ الجديد"