“لا قياس مع وجود الفارق”، هكذا أجمع لسان العرب وإن اختلفوا في أمور كثيرة.
ومؤدى هذا القول المأثور، أن المقارنة والقياس يستقيمان دائما بين الأمور القريبة التي تنتفي فيها الفوارق وتغيب عنها المتناقضات، وأن ما عدا ذلك من مقارنات تحاول الترجيح بين الأشياء المتباعدة لا تعدو أن تكون إسقاطا سرياليا مدفوعا بخلفيات متعددة، قد يكون الجهل وعدم النباهة أحدها.
ومرد هذا الحديث ما حاول المعطي منجب تصريفه من استيهامات شخصية ملتحفة برداء السياسة، عندما حاول خلق مؤشرات تقارب وهمية بين قضية جمال خاشقجي ومحاكمة توفيق بوعشرين، أو عندما حاول أيضا تدليل التنافر القائم بين محاكمة هذا الأخير وقضية الصحفي التونسي توفيق بنبريك، الذي توبع قضائيا إبان حكم زين العابدين بن علي.
إن أوجه التشابه الحقيقية والوحيدة بين قضية بوعشرين وبنبريك تنحصر فقط في الاسم الشخصي لكلا الموقوفين (توفيق)، أما دون ذلك من أمور فكلها تناقضات وتباعدات بلغت حد التضاد. فقضية الصحفي التونسي تفرّق فيها دور البطولة بين الصحفي المتهم وسيدة وحيدة هي التي وصفها المعطي منجب بالعميلة للمخابرات التونسية، أما في قضية توفيق بوعشرين فإن الضحايا تجاوز عددهن أنامل اليد مجتمعة. فكيف يستقيم إذن القياس والمقارنة بين كلتا الحالتين؟ حالة فيها ضحية مفترضة وحيدة وحالة أخرى فيها الضحايا بالعشرات، ومن مختلف الأطياف والشرائح، فمنهن المتزوجة والعازبة والثيب والحامل والنافس ومن هي في عدة المحي وغيرها الخ.
أما في قضية الصحفي السعودي جمال خاشقجي، فكبوة المعطي منجب كانت كبيرة وفجة، لأنه لم يكتف بإجراء القياس في ظل وجود الفارق، وإنما تحدث بلسان المرحوم وقوّله ما لم يقله قيد حياته.
فالمعطي منجب زعم أن توفيق بوعشرين تلقى اتصالا من جمال خاشقجي، قبيل اعتقاله، يحذره فيه من مغبة انتقام النظام السعودي وقال له بالحرف ” إنني أعرف عقليتهم” والضمير هنا يعود على ممثلي النظام السعودي الحاكم!.
وبالرجوع إلى الصفحة المفتوحة باسم توفيق بوعشرين على موقع فايسبوك، والتي تُدوّن فيها التعليقات المنسوبة له، بحكم أنه نزيل مؤسسة سجنية ولا يمكنه تسيير حساب على منصات التواصل الاجتماعي، نجد أن هناك تدوينتين تتحدثان عن قضية جمال خاشقجي، منشورتان على التوالي في 20 و22 أكتوبر 2018. وفي كلتا التدوينتين لا نعثر على أية إشارة إلى عبارة “إنني أعرف عقليتهم”.
فمن الذي يكذب في هذه الحالة؟ هل توفيق بوعشرين الذي ادعى أن جمال خاشقجي اتصل به قبيل اعتقاله؟ أم أنه المعطي منجب الذي حاول أن يكون بوعشرينيا أكثر من بوعشرين ذاته؟
ومع ذلك، ففي كلتا الحالتين يبقى الكذب جليا وواضحا، لأن جمال خاشقجي الذي زعموا أنه حذّر توفيق بوعشرين من انتقام نظام بلاده، كان حريا به أن يحذر نفسه من مغبة الانتقال بين سفارات بلاده في العالم وصولا إلى قنصلية المملكة العربية السعودية باسطنبول بتركيا. فالذي يتوفر على هذا المنسوب العالي من الحس الأمني، والخبير بعقلية بلاده إن صح زعمهم، كان أولى له أن ينصح نفسه قبل أن يكون ناصحا للآخرين.
ولعلّ القرينة الأكثر توضيحا لمكامن الكذب والبهتان في مزاعم توفيق بوعشرين والمعطي منجب، هي أن لا أحد منهما أثار مسألة التحذير هذه في حياة جمال خاشقجي، ولا في إبان فترة اختفائه التي ناهزت الأسبوعين، ولم يسارعا بالجهر بها إلا بعد إعلان وفاته لأنهما كانا يدركان وقتها أن المفترى عليه بين يدي الله، وأن لا أحد من العباد، غير الله سبحانه وتعالى، يستطيع تفنيد ادعاءاتهما.
وخلاصة القول، إن مقالة المعطي منجب لم تكن ذات طبيعة إخبارية أو تحليلية أو استقصائية، كما يحلو له أن ينعت صحافة مقربيه، وإنما هي في الحقيقة مجرد إسقاطات غايتها الدفاع عن توفيق بوعشرين عبر نفث سموم نظرية المؤامرة في ملفه القضائي، مثل ذلك التلميذ الذي أسقط- بفضل دهائه- الطائرة في حديقة غنّاء ليتسنى له الحديث عن هذه الأخيرة في فروض الإنشاء والتعبير اللغوي. لكن للأسف، النباهة لم تسعف المعطي في هذه المقالة، التي كان فيها شاردا، وصحّ أن يكون اسمه الحقيقي المعطي غير النجيب.