فيليب جيلداس…وداعا !
أول مقال نشر لي في "الأحداث المغربية" كان عن فقرة من برنامج كان هو الذي يقدمه. يتعلق الأمر بالكبير التلفزيوني الذي ودعناه يوم الأحد الفارط فيليب جيلداس، وببرنامجه ذائع الصيت "هنا فقط الذي كان يقدم ضمن فقراته فقرة السخرية السياسية والاجتماعية الأكثر شهرة في فرنسا "الدمى الإخبارية" أو الذي لم يتوقف إلا في السنة الماضية.
حاولت منذ سمعت خبر رحيل فيليب جيلداس أن أتذكر متى شاهدته أول مرة، أو متى سمعت صوته في الإذاعة أول مرة، فلم أستطع تحديد الزمن بدقة
هو من طينةأولئك الذين يعطونك الإحساس أنهم هنا منذ البدء وأنهم سيظلون هناحتى الختم،مع أن الحياة لاتتترك أحدا لكي يستمرمعهاحتى الختم
ومع ذلك ومع الرحيل الحزين اللابد منه لأنها سنة اللعبة المسماة الحياة، فقد استطاع هذا الرجل أن يترك مساحة كبرى في قلوب كل من شاهد برامجه في التلفزيون أو أنصت إليه في الإذاعة حين كان شريكا للساخر الكبير كولوش.
صنع فيليب جيلداس زمنا جديدا للتلفزيون في فرنسا كنا نتابعه هنا في المغرب، عن بعد لكن بحماس كبير، لأننا كنا محرومين - وتقريبا لازلنا على الحال ذاته - من تلفزيون نجد فيه ذواتنا الفرجوية والتثقيفية والإخبارية فكنا نطلب اللجوء إلى القنوات التي تلبي أذواقنا وكنال بلوس - تلك التجربة الرائعة التي تم وأدها في فرنسا - كانت واحدة من أهم منافذ الهروب هاته
أتى فيليب جيلداس إلى التلفزيون من عوالم الصحافة المكتوبة، إسما لامعا يخط مقالاته بفرنسية رائقة هو الذي كان يريد أن يكون أستاذا للاتينية وليس صحافيا، وحمل معه ذلك الزاد اللغوي وأيضا زادا ثقافيا جد مليء إلى التلفزيون، لذلك لم يكن منشطا تلفزيونيا تافها يمتلك منظرا قابلا للمرور في الشاشة وكفى
لا كان ثقافة تترك أثرا واضحا حين العبور، وكان موسوعة تبهر كل من يأتي إلى برامجه من ضيوف فرنسيين أو عالميين بقدرته على الحديث عن كل المجالات وبضبطه لتلك المجالات وليس الحديث عنها بفضول أو تطفل مثلما يفعل الكثيرون، لذلك كانت بصمته واضحة في كل مافعل
بالإضافة إلى غزارة ثقافته لم يكن لدى جيلداس في عقله حدود لشيء ما. لم يكن محنطا، ولم يكن جامدا في قالب معين. كان منفتحا إلى أقصى درجات الانفتاح، لذلك استطاع أن يصنع مع أنطوان دوكون القادم من عوالم الموسيقى والجنون الخاص ثنائيا غير متوقع دام لسنوات وسنوات في التلفزيون قبل توقيف البرنامج، لكن بقي للتاريخ وللأبد في ذاكرة من شاهدوا الرجلين وفي ذاكرة التلفزيون الفرنسي والعالمي بصفة عامة
في نهاية المطاف هذا هو الفرق بين الذين يمتلكون بصمة ما يتركونها وبين من يتسلطون على مجال ما ويسكنونه قسرا ثم يمضون فتنسى أنهم كانوا. تتذكر لهم الزلات وعثراتهم وكثير الرداءات، وتسأل نفسك بعد أن يمضوا "كيف منحناهم فرصة أن يتحدثوا إلى الناس وهم لا يتقنون حتى طريقة الحديث إلى أنفسهم؟"
عندما يسقط كبير من كبار التميز مثل جيلداس تجد نفسك مجبرا ودون إرادة منك منجرا إلى المقارنة مع واقع الحال، في فرنسا طبعا، لكن أيضا في تلفزيون المغرب
فجأة تلعن الشيطان كثيرا الذي وسوس لك بهاته المقارنة الظالمة، وتنتهي من الموضوع كله. تترحم على فيليب جيلداس الكبير تشكره على كل لحظة متعة أهداك إياها أنت والآخرين، وتكتفي
توت عنخ عزيز
للأمانة، للتاريخ، للحقيقة طمأننا عبد العزيز بوتفليقة أول أمس الأحد جميعا..
كلنا كنا نشعر بخوف شديد من أن يتعب الرجل، وأن يقرر الذهاب لحال سبيله. لكن إعلان الجبهة الوطنية للتحرير أن بوتفليقة سيترشح العام المقبل للانتخابات الرئاسية في الجزائر الشقيقة أمر أعاد إلينا السكينة، ومنحنا الهدوء وجعلنا نشعر بأن الأيام المقبلة لن تكون إلا أكثر هدوءا مادام عبد العزيز لن ينصرف لحال سبيله
الجزائر بلد يهمنا كثيرا. وهو جار لنا، وكثير من ملامحنا تشبه ملامح ساكنيه. وكثير من لغتنا المغربية نجد له شبيها في اللغة الجزائرية. وطريقة نطقنا للحروف تقريبا واحدة إلى الدرجة التي تجعل المصريين يجدون صعوبة في التفريق بيننا اعتمادا على شكل اعتدائنا على الكلمات ونحن نضغط عليها مثل أي متوسطيين أصليين لكي تخرج مثلما نريد، لذلك نحن والجزائر واحد، وهموم الجزائريين همومنا وأيضا أفراحهم أفراحنا
ومن أفراحهم ذلك الأحد الإطلاع على خبر نية بوتفليقة الاستمرار رئيسا لهم في الولاية المقبلة. وهم إذ يفرحون نفرح، وإذ يقتنعون أن مستقبلهم مضمون مع عبد العزيز نطمئن نحن أيضا وننزوي في مكان ما نعد الأغاني والأناشيد لاستقبال هذا الحدث السياسي بما يليق به من احترام وتبجيل وتقدير
كم يبلغ عبد العزيز من العمر؟ لا أحد من الأجيال الحالية أو الأجيال التي ستأتي يعرف.
أصدقاؤه فقط، من بومدين إلى كاسترو يعرفون.
المهم أنه كان هنا عندما كانت الصور بالأبيض والأسود، وكان هنا قبل اختراع آلات التصوير، وكان هنا قبل أن يشرع الإنسان في التفكير في تصوير أي شيء، وكان هنا قبل أن تقرر فرنسا دخول الجزائر وتسميتها بالفرنسية وكان هنا قبل أن يخرج العثمانيون من وهران وتلمسان وبقية المدن الجزائرية وكان هنا قبل أن يشرع إبن خلدون في كتابة المقدمة، أي كان هنا منذ البدء والسلام.
الأهم من تاريخ ميلاده، تاريخ بقائه. وعلى مايبدو هو الذي سيبقى وسيذهب الجميع. سيستفيق ذات يوم من نومه الاصطناعي الذي يجعله يظهر كأنه نائم /مستيقظ، سيبحث كثيرا في الأرجاء عن الناس. لن يجد أحدا. سيكتشف أن البشرية انقرضت وأن الساعة قامت (الساعة الحقيقية لا ساعة الحكومة) وسيصرخ عاليا باحثا عن شخص ما يكلمه. لن يرد عليه إلا الصدى :"أنت الرئيس، أنت الرئيس أنت الرئيس، اليوم وغدا وفي كل الأيام سيدي". وكفى.. تصوروا المشهد المؤلم: الجزائر العظيمة بجلالة قدرها يحكمها الصدى. حقيقة لا كلام.
لله ياجزاير ياوردة الروح وصافي.
بقلم: المختار لغزيوي