انتَظِر! إلى متى، هل هناك مواعيد؟ لستُ أدري، انتظر بمواعيد أو دون مواعيد، لكنّ انتظاركَ سيكون صعبًا.. انتظرْ وأنت ممتلئ بالحزن، وأنت تراقب أمطار الوعود، وهي تُغنَّى على دقّات الدف والعود.. انتظرْ كما انتظر الذين سبقوك بالانتظار، انتظِرْ فليس لك والله غير الانتظار، فهو خير لك من الهجرة أو الانتحار.. انتظر ساعةً؛ ثم يوما؛ ثم عاما؛ ثم عمرا؛ بل دهرا ممّا يعدّون.. انتظرْ في الإدارة؛ اعتصمْ أمام الوزارة.. انتظرْ بباب المسؤول، استفسرْ بوّابًا لقّنوه قهرًا عبارة: الوزير مشغول! ثم اقرأ مواعيدَ الزيارة، ولا تيأسْ، فلربّما سعادتُه يفكّر لنا في الحلول، ومن يدري؟!
انتظرْ، وتشبّثْ بالأمل الطويل الممل.. انتظر، فلا حياة بدون أمل، ولا حياة لمن لم ينتظر، ولا بقاءَ لمن كَلّ أو مَلّ.. انتظرْ مع الجوع، والفقر، والفاقة، في زمن كلّ ما كانت فيه الحاجةُ ملحّةً، كانت السرعة غير مطلوبة.. انتظرْ، وقد انتهى حرّ الصيف فعلا.. انتظر فيما الريح ستحمل عواصف الجليد، وما عاد هذا الوضع عندك بجديد.. انتظرْ تحت "شآبيب" الوعود، وجفاف غيوم الجود، وارتفاع حرارة الجحود، بأبسط شروط الوجود.. انتظرْ، فالمهم هو الانتظار، في انتظار ساعة الاحتضار، وكلّما انتظرتَ ونذرتَ إلى الرحمان، صومًا، كان ذلك هو الانتصار، وكنتَ عند حسن ظن الوزير، والمستشار، وبقية الكذابين الكبار.. شاهِد التلفزة ليلا، وهي تقدّم مواطنيـنَ بائسين، يعبّرون عن ارتياحهم خلال نشرات الأخبار.. هذا يذكّر بدعاية الكذب أيام الشيوعية؛ وفي شريط أخبار مخدوم، كانوا يُظْهِرون في "الغولاغ" بائسًا يبتسم، فيما الرجل كان في حالة احتضار.. حتى "بيرنادشو" انطلتْ عليه الكذبةُ، فأبدى إعجابَه، وعبّر عن الارتياح والانبهار..
انتظرْ، لا يهم الزمن، وقد صرتَ كائنًا "لا زمكانيًا"، فأنتَ بانتظارك، وبفقرك، وبعطالتك، صرتَ ملاكًا، وبعوزك عانقتَ سماءً، فما عدت تطلب خبزًا ولا ماءً، ففي ذلك فقط ما أكثرهم جودًا، وما أصلبهم عودًا، وما أشدّهم جحودًا، وما أمضاهم حسامًا.. انتظرْ، فسياستهم صيّرتْكَ "يسوعًا"، مال بين صلبانهم، فكان المشهد رهيبًا، والقُدّاس مهيبًا، واستحالتْ نضارةُ الشباب مشيبًا.. انتظرْ ببطالتك، فقد أرادوا لكَ أن تبقى ذلك الإنسان الوقور، ما دمتَ لم تصبح بعدُ رقمًا طائشًا في يناصيب الأجور.. من أجل ذلك، يطيلون ويحافظون بسياستهم على إنسانيتك في عرفهم، ويجدّدون المنشور، ثم ينتجونه، ويعيدون الإنتاجَ، كما يفعلون عادة في سائر الأمور.. انتظرْ ببطالتِك، وبعرقك، وبأرقك، وبملفِّك وورقك، ولا تيأسْ، فهم يفكّرون لك، وينمّقون العبارات، ويجدّدون الديكور.. انتظر، ولا تعجل عليهم، وقد صيّروك ملاكًا، والملائكةُ لا يأكلون، ولا يسكنون، بل يفعلون ما يؤمَرون.. انتظرْ، لتبقى راهبًا في محراب الانتظار، فالرهبان لا يتزوّجون، لأنّ الزواجَ قذارة، والعزوبة طهارة..
اِنتظرْ، فليس بالخبز وحده يعيش الإنسان، والصبر دليل على قوة الإيمان، وهو ما أوصتْ به كافة الأديان.. انتظرْ، وتشبّثْ بحبل الصبر، فالدنيا فانية، ولا يدوم إلاّ القبر، هكذا قال الوعّاظ كلما خطبوا في سوق "عكاظ".. انتظرْ، وانهلْ من إسهالهم؛ اِلْبِس العبارات، واسكُنِ اللغة، وتناولِ الألفاظ، لكن انتظرْ بمواعيد أو دون مواعيد.. انتظرْ فيما الريح تدير طواحين الخواء.. انتظرْ فيما كلام البرلمان تفضحه الأيام، ويغشّيه ضبابُ الزمان.. انتظرْ، واحذرْ هراوات تهوي على الأبدان، وتؤكّد حقوقَ الإنسان.. انتظرْ، فيما المهموم يطالب بأبسط الحقوق، فيقمع ويُهان..
انتظرْ، فمن أجلِك، ومن أجل إنسانيتك، أُنشِئَتْ حكومةٌ بأربعين وزيرا، وغصّتْ ساحةٌ بـ(36) حزبًا، وضِعْفُ العدد منظمات، وجمعيات، وكل حزب بما اكتسبه فرحون، ثم الكل في فلك واحد يسبحون.. انتظرْ، كما انتظرتَ طويلاً نتائجَ الامتحان.. انتظرْ وتكحَّلْ كل ليلة بشاشة غشّاشة، وهي تلوك عبارات الرفاهية، وتغذّي الشعورَ الوهمي بالاطمئنان.. انتظرْ، دوّامةً اصطُلِح عليها بـ"الحوار"، وقد باتت لفظةً ميتة بلا مضمون أو أفكار.. انتظرِ "الحوار"، وقد صار من أشباه الألفاظ، ما دام بلا مدلول، ولم يسفرْ قطُّ عن حلول.. اِنتظرْ، واسْكر بكأس "الحوار الكحُول"، حتى وإن لم يعدْ له على الوعي التّعيس أي مفعول، وقد انتهتْ صلاحية استهلاك هذا" المحلول".. انتظر، فالحواجز أمامنا، والهراوات وراءَنا، والأكاذيب تحوم فوقنا، وليس لنا والله إلا الصبر.. أجل! الصبر قوتُنا اليومي.. الصبر لباسنا القومي.. الصبر قبرُنا الخالد..