على إيقاع مقطوعة ماجد المهندس التي تتغنى بمحاسن المغرب تكدسنا ونحن سبعة نفر في سيارة أجرة مكرهين مثل بضع سردين في علبة تصبير..
شاء الظرف أن يكون رفقتنا في الرحلة مغربي من المقيمين بالخارج، ما كان ليصب جام غضبه علينا، نحن الركاب والسائق وعلى المغرب من شماله إلى جنوبه، لولا أن طلبت إليه الاستواء في جلوسه وهو بجانبي، يكاد جسده يأكل من جسدي، والعكس صحيح، وقد غاضه أنني ألوك ما تقوله الأغنية، جنة، جنة، مغرب يا وطنّا، لينفجر غضبا، جهنم هذه، وليس جنة كما تكذبون علينا وتغررون بنا..
بوطنيتي حاولت أن أنافح عن مغربي، وفي قُرارة نفسي أعلم كل العلم أن المغرب جنة فقط بطبيعته الخلابة، بحر وجبل ومحيط وأنهار وصحراء وأودية وكثبان وغابات غنّاء وأربعة فصول، وشمس وظلال واعتدال في الطقس كما اعتدال في الدين واستقرار وأمن وسلم، وعدا ذلك يدخل في باب الفوضى.. وكيف لي أن أنافح عن وطني ووضعنا المزري لا يمت بصلة إلى أدنى مؤشر من مؤشرات الجنة المزعومة بداية من وجودنا في سيارة للأجرة تنعدم فيها، في تناقض متناغم، أدنى شروط الإنسانية، فبالأحرى أن تتوفر فيها شروط السلامة..
المغرب الذي سنّ قانون حزام السلامة على كل أنواع المركوب وأفرد له عقوبات وغرامات في مدونة النقل، لكن مع ذلك جعل سائق سيارة الأجرة والراكبين رفقته استثناءً، هو المغرب الذي سن قانون منع التدخين في الأماكن العمومية منذ 1995، ومع ذلك ما تزال سادية المدخنين (عفا الله عليهم)، هي السائدة في كل المَواطن، وهو المغرب الذي قطع مع الرشوة والابتزاز في الإدارات والمصالح بوضع خط أخضر للتبليغ عن المرتشين، لكن مازالت فيه لازمة " أدهن السيرْ يسيرْ " بكل الطرق وفي جل المصالح وعلى كل الطرقات، هو المغرب نفسه الذي دخل الديمقراطية والشفافية والحكامة من الباب الواسع، وفي الوقت نفسه هو الذي لا تزال فيه أصوات الناخبين تباع وتشترى بكل أنواع الريع بداية من "زْرُود" ملء البطون والورقة المالية البخسة ونهاية عند الوعد المستحيل، هو المغرب الذي فيه برلمانيون ورؤساء جماعات ومستشارون بلا مستوى ثقافي أو تكوين علمي لتدبير شؤون المواطنين على أكمل وجه، هو المغرب الذي تجد فيه الوزير هو "الباطرون" وهو النقابي في نفس الوقت ، هوالذي فيه قرابة 40 في المائة من المرضى النفسانيين، هو الذي فيه طبيب واحد لكل ألف نسمة،هو الذي مازالت فيه معدلات وفيات الأمهات عند الوضع مرتفعة،هو الذي مازال السل والفيروس الكبدي والسرطان وفقدان المناعة المكتسبة تحصد أعمار أبنائه بالنهار كما بالليل، ومستشفياته العمومية بنايات، خاوية على عروشها، يقارع فيها المواطنون الابتزاز أكثر من مقارعتهم الموت، ومصحاته الخصوصية مَواطن لكل أنواع الاتجار في البشر بدل تفعيل نزر قليل من قَسَم أبقراط.. المغرب هو الذي يتكدس في أقسامه التعليمية التلاميذ، وحينما يشتد ضغط لوبيات المدارس الخصوصية تحوَّل مدارسُه العمومية، التي تبرَّع بها أبناءُ الوطن أثناء المقاومة، إلى أوعية عقارية تصرف بالملايير. المغرب هو الذي تباع فيه شهادات الماستر والدكتوراه، كما يباع الماء والتين المجفَّف على شواهد القبور، هو الذي يتوفر على أربعين سدا وتعاني الدواوير والأدشار من نقص الماء الشروب، هو الذي سمح بالهجرة القروية للمدن بعدما سد كل الأفاق في البادية. المغرب هو الذي فيه مشردون وفقراء وأيتام يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في تناقض غريب مع الوجه الذي نسوقه للوافدين من السياح وللمنظمات الدولية ..المغرب، على عكس العالمين، هو الذي أقفل المدارس وبنى السجون لأن الجريمة بكل أنواعها استفحلت واستعصت حلولها.. المغرب هو الذي انعدمت فيه المحاسبة الحقيقية على كل الاختلالات. وهذه منفردة، أي الإفلات من المحاسبة وحدها هي التي تجعل المغرب جنة، لكن على المقاس..
صاحب المقال : عفري محمد