يقول الفيلسوف الكبير [جون لوك]، وهو بريطاني الجنسية، وقد اعتُمِدت فلسفتُه في صياغة الدستور الأمريكي، إنّ الحكومةَ هي الحارس الليلي لحقوق المواطن، وإذا سنّتْ هذه الحكومةُ قوانيـنَ مجحفة بحقوق المواطنين، وجب فورًا إلغاءُ هذه القوانين، أو إسقاطُ هذه الحكومة، وللشعب الحقُّ في ذلك.. ولـمّا قامت دولة الأمريكان، انحرفتْ حكوماتُها عن الحق والعدالة، فتصدى لها فلاسفة من أمثال [دايڤيد ثورو: 1817 ــ 1862]، فرفض دفْع الضريبة للحكومة ليعلن احتجاجَه بصورة عملية، وسُجِنَ من أجل ذلك، فتقدّمَ نفرٌ من أصدقائه، ودفعوا عنه الضريبةَ، فأخليَ سبيلُه، لكنْ بقيتِ المشكلةُ النظرية قائمة، وهي: هل للفرد حقّ الامتناع عن دفع ضرائبه للحكومة إذا وجدها قد انحرفتْ عن الحق والعدالة؟ يجيب [ثورو] على السؤال بأنّ للفرد هذا الحقَّ، لأنه مُنطوٍ تحت سلطان الدولة باختياره، وعلى شروط معينة، وباختياره يستطيع الانسلاخَ عنها إذا أخلّت بشروط التعاقد.. ومن طريف ما يُرْوَى، أنّ فيلسوفا أمريكيا آخر، يُدْعى [إمّرسَن] زاره في سجنه لامتناعه عن دفع الضريبة للحكومة؛ فسأله: [(ثورو)]! ماذا تصنع وراء القضبان؟]؛ فأجابه (ثورو): [(إمِّرسَن)! ماذا تصنع أنت خارج القضبان؟] وكتب يقول: [إنّ الحياةَ الطليقةَ في ظل حكومة ظالمة، هي السجن بعينه لمن ينشد في الحياة عدلاً.]؛ (فحَرَکَ) إلى الغابة، واعتزل الحياةَ في ظل حكومة جائرة قوانينُها، وعاش في كوخ في الغابة ومات وحيدا سنة (1862)، وهو في الخامسة والأربعين من عمره.. وهكذا ترى إلى أين يمْكن أن تدفع الحكومةُ الظالمةُ بالمواطن المقهور، ولعل الهجرةَ اليوم، هي أحد تمظهرات الظلم، والحيف، والجَوْر، والكذب الذي تمارسه الحكومةُ على المواطن، فتضطرّه للهجرة..
فالحكومة التي تدير شؤونَ المواطنين في بلادنا، وتدّعي محاربة الفقر، والهشاشة، تشْبه الحكومات التي أدّتْ إلى انهيار دولة العباسيين، حيث المسؤول يصادر الرعيةَ، والوزير يصادر العمّالَ، والوزارةُ تصادر الناسَ على اختلاف طبقاتهم، حتى أنشَؤُوا لهذا الظلم ديوانًا خاصّا مثْل سائر دواوين الحكومة؛ فكان مالُ المواطنين يُتداول بالمصادرة كما يُتداوَل بالمتاجرة بمراسيم أو قوانين جائرة، أضِفْ إلى ذلك ما نجم عن فساد الأحكام من الضيق المالي، وغلاء الأسعار في المدن، وما نشب من تطاحُن الأحزاب، فعمّت الفتـنُ، والجرائمُ، والسرقات، وفشى الفساد، والرّشوةُ، وراجتِ السِّعايات برجال الدولة، واستبدّ الوزراءُ بمناصبهم؛ وهكذا، لـمّا أصبحت الدولةُ العبّاسية فيما تقدّم من فساد الأمور، وظلمِ القوانين، وجشعِ الوزراء، ذهبتْ هَيبتُها، وصار المواطنون يوجّهون إليها سهامَ النقد علانيةً، وكانت تلكم بوادر أفول نجْم العباسيين: اُنظر كتاب (تاريخ الوزراء) للهلالي الصّابِي؛ صفحة (306).. فهذه الحكومةُ في بلادنا تروّج لسياسة التفاؤُل الزائف، وتدّعي كذبًا أنها تحارب الفقر، فيما عددُ الفقراء سيتزايد كنتيجة حتمية لهذه السياسة، وسأضرب لكم مثالاً لا يلتفت إليه أحدٌ، رغم ما ينطوي عليه من خطورة بالغة، وسوف تكون نتائجه كارثيةً، لا شكّ في ذلك..
إنّ الحكومة بسبب قوانينها الجائرة، ستخلق طبقةً فقيرةً تنضاف إلى الطبقة المعروفة، كيف ذلك؟ لقد سنّتِ الحكومةُ قانونا يحمي الذين يملكون على حساب الذين لا يملكون، وذلك بواسطة قانون هو آية في الظلم والابتزاز.. لقد سنت قانونًا في مجال الكراء لحماية وزيادة ابتزاز أصحاب دُور الكراء التي شُيِّدتْ بواسطة الرشوة، والممنوعات، والتهريب، وأرغَمَ هذا القانونُ السَّبُوعي الظالمُ، المواطنَ الموظف أو العامل أو المتقاعد المكتري لأحد هذه المساكن، أن يزيد كل ثلاث سنوات مبلغًا إضافيا بنسبة (10 بالمائة) لصاحب المحل، وحتى بعض المؤسسات نفّذتْ ذلك، لأنها تحوّلت إلى حوانيت أو وكالات؛ وهكذا؛ فكل ثلاث سنوات إلاّ ويضيف المواطنُ قهرًا زيادةً بنسبة (10 بالمائة) إلى مبلغ الكراء الباهظ أصلا؛ وعلى هذا الأساس نطرح الأسئلةَ المنطقية التالية، وهي: هل السكنُ يتمطّط ويتّسع كل ثلاث سنوات تلقائيًا؟ هل راتبُ الموظف أو العامل أو المتقاعد يعرف زيادةً كل ثلاث سنوات؟ فأين هو وجْه العدل في هذا القانون بالله عليكم؟ فمع هذه الزيادة في مبلغ الكراء كلّ ثلاث سنوات، سيتجاوز مبلغ الكراء حتمًا راتبَ المواطن المقهور، بسبب جَوْرِ وظلمِ هذا القانون الذي سنّه الملاّكون الليبراليون المتوحِّشون، ممّا سيضاعِف عدد الفقراء، وسيُلقى بهم إلى العراء، ليناموا في الأزقّة، وعلى جنبات الطرقات، حفاظا على ابتزاز، وجشعِ الملاكين الذين تخْدمهم قوانيـنُ الحكومة.. كان جلالة الملك (الحسن الثاني) طيّب الله ثراه، قد تنبّه إلى الإذلال الذي يتعرّض له المواطن المكتريُ، فأفتى بخصم الثلث من مبلغ ثمن الكراء، لكن البرجوازيين، وأزلامَهم الملاّكين، قاوموا هذه الفتوى، وحوّلوها إلى زيادة تُدْفَع لهم كل ثلاث سنوات، وإلاّ مصيرُكَ النوم في العراء، ولو بعد سنين.. هكذا ستكون نتائج محاربة الفقر الكاذبة: يحيا العدل!