توقع مقال مطول نُشر بمجلة فورين أفيرز الأميركية أن تتعرض الدول العربية لعواصف أعتى من الربيع العربي، ومن الاحتجاجات التي جرت عقب الانخفاض الكبير في أسعار النفط في 2014.
وورد في المقال أن دولا عربية كثيرة بدت كأنها نجت من العاصفتين، إلا أنه من المرجح حدوث المزيد من العواصف، لأن عاصفتي 2011 و2014 ما هما إلا مظاهر لتغيير عميق يجري بالمنطقة وسيستمر إذا لم يتم تغيير العقد الاجتماعي الراهن الذي كان يقف وراء الاستقرار الذي تمتعت به الدول العربية قبل العواصف المذكورة، ولم يعد مجديا في الحفاظ على استقرار هذه الدول.
وحذر مروان المعشر الأكاديمي ووزير خارجية الأردن الأسبق -الذي كتب المقال- من أنه إذا لم يتحرك قادة المنطقة بسرعة للتوصل لصفقة اجتماعية جديدة مع مواطنيهم، فإن عواصف أعتى ستأتي في الطريق.
وأوضح أن العقد الاجتماعي الساري حتى اليوم في الدول العربية هو أن تقوم الدولة بالإنفاق على الوظائف المستقرة (القطاع العام الواسع)، والتعليم، والرعاية الصحية، ومقابل ذلك حصول القيادة على الخضوع السياسي من قبل المواطنين.
لكن، ومع استمرار انخفاض أسعار النفط، والتغيّر الذي يجري على التركيبة السكانية، فإن تلك الصفقة بين الحاكم والمحكومين بدأت تفقد جدواها؛ فبدون كفاية العائدات من النفط للإنفاق على البنود المذكورة، فإن الحكومات ستجد من الصعوبة تلبية التزامها بموجب العقد الاجتماعي مع المواطنين، وستفقد مصدرها الأساسي لشرعيتها السياسية، بحسب الكاتب.
احتجاجات حاشدة شهدتها تونس وتركزت في العاصمة أدت في مطلع 2011 إلى الإطاحة بابن علي (غيتي)
نخبة ضيقة
وأشار معشر إلى أن بعض الدول غير النفطية مثل الأردن ومصر تعتمد في استقرارها على أسعار النفط، لأنها تحصل على معونات كبيرة من الدول النفطية وعلى تحويلات مغتربيها الذين يعملون في تلك الدول، وأورد تفاصيل عن هذه المعونات دعما للبلدين، قائلا إنها تصل إلى أكثر من 10% من الناتج الإجمالي القومي في كل من البلدين.
وقال أيضا إن الدول العربية، مقابل ما تقدمه من رعاية اقتصادية لمواطنيها، تتوقع من هؤلاء المواطنين ترك شؤون الحكم لنخبة ضيقة، تصبح بمرور الوقت معزولة عن عامة الناس وتربط مصالحها بالنظم.
وأشار إلى أنه، وبدل خلق وظائف عبر نظم الإنتاج القائمة على الكفاءة وليس الولاء وبقيادة القطاع الخاص، وجدت الدول العربية أن توفيرها وظائف القطاع العام غض النظر عن أنها مفيدة للاقتصاد أم لا، هي أفضل طريقة لضمان ولاء المواطنين ووقف المطالب بمحاكمة الحكام.
وقال إن نسبة وظائف القطاع العام إلى وظائف القطاع الخاص في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي الأعلى في العالم.
والعقود الاجتماعية بين الحكام والمحكومين في الدول العربية التي يوصف اقتصادها بالريعي استمرت طوال النصف الثاني من القرن العشرين، لكن المقومات التي تحتاج إليها هذه الدول لتلبية التزامها في العقد الاجتماعي (غير المكتوب) بدأت تختفي من التسعينيات بسبب نمو حجم الحكومة وبيروقراطيتها والنخبة السياسية والعسكرية والفكرية التي تدعمها، مع ثبات أسعار النفط في أفضل الأحوال.
وبدلا من أن تعطي الدول العربية مواطنيها تمثيلا سياسيا أوسع للمساعدة في امتصاص المشكلة، استمرت هذه الدول في إرغام هؤلاء المواطنين على تلبية التزامهم في العقد الاجتماعي الاستبدادي، أي عدم المطالبة بمشاركة سياسية أكثر، حتى إذا لم تقم الدولة بتلبية التزامها؛ توفير الوظائف والسلع الأساسية بأسعار في متناول الجميع وتوفير خدمات الصحة والتعليم المجانية أو المدعومة.
أعاصير تلوح في الأفق
ويستطرد الكاتب أنه وبمجرد أن بدأ حجم تكلفة بيروقراطيات هذه الدول ونخبها يتجاوز ارتفاع أسعار النفط بداية القرن الجاري، كانت الأعاصير تلوح في الأفق بالدول العربية بسبب تصاعد معدلات البطالة فيها وارتفاع أسعار السلع الأساسية كالخبز والوقود، والخدمات، وتدني خدمات الصحة والتعليم.
وبحسب الكاتب، فإن كثيرا من الدول العربية حاولت معالجة تمزق العقد الاجتماعي القديم بإدخال إصلاحات اقتصادية دون دعمها بتغييرات سياسية. ورغم أن هذه الإصلاحات الاقتصادية، التي هدفت منها الدول العربية إلى المحافظة على سلطتها، فإن بعضها لو تم تنفيذه بشكل جيّد لأفاد المواطنين أيضا، لكن وبدون نظم المراقبة والمحاسبة والشفافية للإشراف على هذه الإصلاحات، فإن تلك الجهود -حتى تلك التي تقف وراءها نوايا حسنة- قد انتهت إلى إفادة النخبة بدل عامة المواطنين، وذلك مثل خصخصة مشروعات القطاع الحكومي، وتحرير نظم التجارة، والتكامل مع الاقتصاد العالمي.
لذلك، ومع غياب المؤسسات الرقابية المطلوبة، تصاعد الفساد في غالبية الدول العربية، وبدأ الناس فيها يربطون بين الإصلاحات الاقتصادية وثراء النخبة.
ويقول المعشر “لقد ثبت أن خرق العقد الاجتماعي القديم كان أكبر من أن يُحتمل وأسهم -مع عوامل أخرى- في انهيار العديد من الأنظمة العربية في ثورات الربيع العربي، خاصة تلك النظم ضعيفة المؤسسات مثل تونس ومصر، أما في الدول التي لم تهتم أصلا ببناء مؤسسات مثل ليبيا واليمن وسوريا فقد نشبت حروب أهلية.
ويفصل الكاتب أنه “في الأردن والمغرب تعرضت الأنظمة لاحتجاجات مستمرة لكنها تجاوزت الموجة دون أن يمسها ضرر. وفي البحرين أزعجت الاحتجاجات المستمرة غير القوية النظام الملكي دون أن تكون خطرا عليه”.
وفي دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى كانت الحكومات تمتلك حلا، على الأقل على المدى القصير، وهو تهدئة المواطنين بتوزيع أموال عليها. فقد أعلن الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز في 2011 إنفاق 130 مليار دولار لزيادة المرتبات ومساعدات في الإسكان للمواطنين السعوديين.
وفي دول المجلس الأخرى، منحت الكويت كل مواطن ما يعادل 3560 دولارا (ألف دينار كويتي) وسلع تموينية مجانية لمدة عام كامل. وفي سلطنة عمان خلقت الحكومة ثلاثين ألف وظيفة، ورفعت المنح الجامعية بنسبة 40%.
ومن وجهة نظر المعشر، فإن هذه المعالجات توضح أن الحكومات العربية لم تفهم درس ثورات الربيع العربي، إذ إن أهم تلك الدروس ضرورة التغيير الحقيقي في نهج الحكم الذي عفا عليه الزمن قبل فترة طويلة، وليس الإصلاح الاقتصادي فقط، أي إنشاء عقد اجتماعي جديد يشارك في وضعه المواطنون بدل فرضه من أعلى إلى أسفل.
ويرى الكاتب أن إصلاحات مثل زيادة نسبة المرأة في القوى العاملة، والاستغلال الأفضل للتكنولوجيا لزيادة الإنتاجية، والتوجه نحو اقتصاد المعرفة، وتنويع مصادر الدخل بعيدا عن النفط، وتمكين القطاع الخاص، وتعزيز حكم القانون وثقافة المساواة بين كل المواطنين؛ كلها يجب أن تترافق مع العقد الاجتماعي الجديد الذي سيعالج أزمة النظام السياسي.
وكالات