ظاهرة الهجرة لها أسباب، ولم تَأْتِ من فراغ، هذه الأسباب من بينها الاستعمار، الذي احتلّ القارةَ الإفريقية، ونهب ثرواتِها، واستعبد إنسانَها، حتى لإنّ موجة الاستعمار الكاسح برّرها فلاسفةُ الاستعمار، وصبغوها بالصبغة الشرعية، فصارت مبرّرةً، ومعقولةً، وحقّا ثابتًا من حقوق المستعمِر.. وهذا المفكّر، والسياسي، والمحامي، [جول فيرّي: 1832 ــ 1893] يقول إنه من واجب (فرنسا) إنسانيًا وتاريخيا، أن تستعمر شعوبًا بهدف إخراجها من التخلف والفقر، لكنه في بلده (فرنسا) ناضل من أجل العلمانية، ومجّانية التعليم، لكن شهرتَه ترتكز أساسا على سياسته الاستعمارية.. وهذا [ماركس]، وزميله [أنْجَلْز] يعبّران عن ارتياحهما تجاه الاستعمار الفرنسي لإحدى بلدان إفريقيا، ويهنّئان البلدَ الضحية بهذا الاستعمار الذي سيُخْرج البلدانَ المستعمرةَ من التخلف، ويدخِلها إلى عالم الحضارة، والتمدّن؛ وها نحن اليوم نشاهد ما وصلتْ إليه هذه البلدانُ من (تقدُّم) بفضل الاستعمار.. وهذا الفيلسوف [كلود ليڤي شتراوس] زعيمُ [البنائية] يقول إنّ حالة إفريقيا وهي تحت الاستعمار، أحسن من حالتها اليوم وهي تنعم بالاستقلال..
لقد استُخدِم الأفارقةُ في الحرب العالمية الأولى، ومات منهم الآلاف في حرب الخنادق بجنوب (فرنسا)، وما زالت قبورُهم إلى اليوم شاهدة على ذلك؛ ماتوا في حرب كانت بين الأوربّيين، ولا جملَ ولا ناقةَ للأفارقة فيها.. وبعد عشرين سنة، اندلعتِ الحربُ العالميةُ الثانية، وكانت مواردُ (فرنسا وبريطانيا) تأتي من البلدان الإفريقية المستعمرة، ومات الآلاف من الأفارقة في حربٍ لا تعنيهم إطلاقًا، لكن قيل لهم كذبًا إنّ هذه الحرب، هي من أجل الإنسانية، والحرّية، والديموقراطية، فصدّقوا الكذْبةَ، وها همُ اليوم ينعمون بالحرية، وحقوق الإنسان، والديمقراطية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، ومنهم من كان غذاءً للحيتان ولأسماك القرش الجائعة.. بعد الحرب، شجّعتْ (أوربّا) الهجرةَ، لأنها كانت بحاجة إلى الأيدي العاملة لإعادة بناء ما دمّرتْه الحربُ؛ وبعد البناء، حافظتْ (أوربا) على المهاجرين، لأنهم كانوا يقومون بأعمال كان الأوربّيون يرفضون القيام بها كالنظافة، والوادي الحار، وزراعة الأراضي، وغيرها..
وفجأة، بدأتِ الدولُ الإفريقية تطالب بالاستقلال، والحرية؛ وبعد موافقة الدول الأوربية على هذا الاستقلال، حرصتْ، انطلاقًا من عقليتها الاستعمارية الموروثة منذ قرون، على أن يكون هذا الاستقلالُ بشروطها، حفاظًا على مصالحها، وهكذا، نصّبتْ رؤساءَ موالين لها على رأس دولٍ إفريقية، وصار مرتزقتُها مرةً يطيحون برئيس، وينصّبون آخرَ مواليًا لهم، وصرنا نُمْسي على نظام، ونصبح على نظام آخر يتزعّمه رقيب، أو عَريف، أو عقيد في الجيش، بل إن الشيوعية هي كذلك أغرتْها (إفريقيا) فقادتْ انقلابات مثلا في (إثيوبيا)؛ وفجأة أصبحت الديموقراطيةُ دينا والديكتاتورية كفرًا، وأُجبِرتِ البلدانُ الإفريقية على الدّمقرطة؛ فصار الديكتاتوريون ديموقراطيين، ونشأتْ ما يمكن تسميتُه: [الدّيموكْتَاتُورية]، فصار الرئيسُ ينظّم انتخابات صورية، ومنهم من قضى أكثر من (40) سنة في الحكم بفضل (الديموقراطية) في ظل استعمار جديد يسمّى [البنك الدّولي] الذي ينسف الفلاحةَ المعيشيةَ، ويقيم مكانها فلاحةَ التصدير، ومن خلالها يثقل كاهلَ الدول (الديموقراطية) بالديون الأبدية، وهي فلاحةٌ يشرف عليها فاسدون قدماء، وعملاء متفانون، فحلّ الفقرُ، والمرضُ، والإرهابُ، وصارتِ الحياةُ صعبة، وشبه مستحيلة في هذه البلدان الفقيرة..
صار الأفارقةُ يهجرون بلدانهم نحو الدول المستعمِرة التي لا ترغب بهم؛ فالموادُّ والثروات تأتي من (إفريقيا) إلى (أوربّا) يُؤَمّنها عملاءُ، وتحرص على تصديرها أنظمةٌ عميلة، فما الحاجة والحالةُ هذه إلى مهاجرين أفارقة اليوم؟ فهؤلاء المهاجرون الأفارقة هم في الحقيقة يذهبون إلى بلدان أوربية نُقِلتْ إليها ثرواتُ، وخيراتُ القارة الإفريقية، فلو كانت هذه الثرواتُ قد بقيتْ في بلدانها، واستُثْمِرت لصالح إنسانها، لكانت (إفريقيا) أحسنَ من (أوربّا) نفسِها؛ لو كان على رأس الدول الإفريقية، وطنيون صادقون، وأفارقةٌ مخلصون. لكنّ الأوربّيين نهبوا كل شيء، بل حتى الحيوانات سرقوها من (إفريقيا) ووضعوها في محميات في بلدان أوربّية؛ كما أنهم، أرغموا عدة دول إفريقية، باعتماد لغاتهم الأوربية كلغة رسمية، ولم يَبْقَ للأفارقة إلاّ (فولكلور)، ورقصات، وطقوس تذكّرهم بأصولهم، وما زالت في كذا بلد إفريقي، قواعدُ عسكرية منذ الحرب العالمية الثانية.. فالأوربّيون يريدون فقط ثروات (إفريقيا) ويرفضون قدومَ الإنسان الإفريقي الذي وظّفوه في الحروب، واستغلّوه، واستعبدوه، وحكموا عليه بالفقر، والتخلف، وقد كان من واجب الأوربّيين إنفاقُ جزء ممّا سرقوه على المهاجرين الأفارقة؛ فهم جنوا حتى على مناخ إفريقيا بدخان مصانعهم، ومعاملهم؛ فالمهاجرون مسؤولية (أوربّا) تاريخيا وإنسانيا، ولا مجال للتهرّب من هذه المسؤولية..