كثيرا ما سمعنا عبارةً مللناها لفرط استعمالها ولتكرارها، واجترارها حتى صارت ألفاظُها من أشباه ألفاظ في حياتنا، نستأنس بها لنغمِها، ومساهمتها في توليد أحلام في أنفسنا، وهذه العبارة الساحرة هي [محاربة الفساد].. والفساد هو التبدُّل الدفعي الذي يطرأ على الشيء فيغيّر حالَه أو يقلبه إلى شيء آخر غيره، مثل انقلاب النار إلى رماد، والجسم إلى تراب؛ والأشياء التي تقبل الفسادَ على الأكثر، إنما هي الأشياء المركّبة مثل المجتمع، والمؤسسات، والإدارات، والتجمعات، والأحزاب، وقِسْ على ذلك، لا الأشياء البسيطة؛ لكنْ مِمَّ تتكوّن هذه الأشياءُ المركّبة؟ إنها تتركّب من أفراد، وذوات، هي الأصل في الفساد؛ فعندما نصف حكومةً، أو مؤسّسةً، أو إدارة بالفساد، فإننا نعني بذلك فساد الأفراد الذين يكوّنون، ويتحكّمون، ويديرون هذه الحكومة، أو المؤسّسة، أو الإدارة؛ هؤلاء جميعهم، لهم مصلحة في الفساد، فما يعلنونه ظاهريًا، هو عكْس ما يخفونه باطنيا، ثم تسمع شعارات مضنية تنادي بمحاربة الفساد، وفي مفارقة غريبة تلحظ تفشّي، وتزايُد مظاهر الفساد في البلاد..
كان الفيلسوف الشهير [فرانسيس بيكون] متردّدًا، حيث لم يكنْ يعرف من أين يبدأ فلسفتَه التي اشتهر بها في ما بعد؛ وذات يوم، وقع بصرُه على عبارة للفيلسوف الإيطالي المعروف [ماكيا ڤيلّلي] صاحب كتاب [الأمير]، وهذه العبارةُ التي اكتشفها [بيكون] عند [ماكياڤيللّي] هي: [يجب أن نبحث أولا في ما هو كائن، قبل البحث في ما ينبغي أن يكون]؛ فضرب [بيكون] بِجُمْعِ يده على الطاولة وصاح: [لقد هداني هذا الإيطالي إلى ما كنتُ أبحث عنه، وعرفتُ بفضله من أين أبدأ].. ولعلّ هذا ما عناه [نابليون] ذات يوم، حين قال: [لكي نحكم على الناس حكمًا صحيحًا، ينبغي علينا أوّلا أن ندْرسَهم، ونمعن النظرَ في درس أفعالهم، مفيدةً كانت أو مضرّةً، ونرى إذا لم يكنْ من المحال أن يعملوا غيْر الذي قد عملوه]..
فلن يكون ممكنًا أيّ إصلاح إلاّ إذَا تناولْنا عِلّةَ الفساد من جذورها.. فالفكر المغربي وخاصّة منه السياسي، ما يزال غارقًا في ضُروب من الممارسات العتيقة التي ذهب زمانُها، ولم يعدْ لها أثرٌ عند قادة السياسة الراهنة إلاّ في بلادنا؛ فانظرْ مثلاً حياتَنا الاجتماعية كيف هي خاطئة، ولها آثارٌ سلبيةٌ ظاهرة وخفية، وذلك من وجهيْن على الأقل، ويكفي أن نسوق مثلا واحدًا: النُّظم الاجتماعية بما في ذلك النظمُ السياسية؛ فانظرْ إلى مغربنا، تجد أنّ هناك عقيدةً راسخة، وأنّ هناك الجانب الثابت في الاجتماع، والسياسة، هو بنية الإطار، وأمّا الأفراد أنفسهم، فيجيئون، ويذهبون، فليستِ العبرة بأشخاص الرّجال في ذواتها، بل هي في الدور الذي يؤدّونه في المجموعة المنغومة التي هم أعضاؤها؛ ولذلك يجيءُ وزيرٌ، ويذهب وزير، ويجيء رئيسُ حكومة، ويذهب رئيسُ حكومة، لكنّ إطارَ الحكم نفسِه باقٍ وثابت.. إنّ الديموقراطية أو الدّيكتاتورية أو سَمِّها ما شئْتَ، إنما هي (تركيبة) معيَّنة؛ إذا بقيتْ على طريقة بنائها، بقيتْ صورةُ الحكم كما هي مهما تبدّل عليها أشخاصُ الحاكمين؛ قلْ مثلُ ذلك في مؤسسات التجارة، والصناعة، والإدارة، والتعليم، بل حتى الدّين، وغير ذلك من مؤسسات المجتمع؛ تجدها قادرةً بحكم الفساد الذي ينخرها، على البقاء عشرات من السنين متوالية، بسبب أنّ أصحابَها يحافظون على (كيانها) الذي بُنيَتْ على أساسه، برغم تبدُّل الأشخاص الذين يتولّون أمورَها؛ فما الذي تغيّر عندما حلّ [العثماني] مكان [بنكيران]؟ ما الذي تغيَّر عندما حلّ وزيرٌ مكان وزيرٍ آخر جديد؛ فكل مسؤول هو نسخة من مسؤول سبقَه؛ وكل مسؤول لا تربطه علائقُه بالملكية التي هو عاملٌ فيها، بقدر ما يربطه بالحزب الذي جاء منه؛ والمهم عندنا هو [مَن هذا الرجل؟] لا [أين موقع هذا الرجل من البناء الاجتماعي، وماذا يؤدِّي؟]..
فلا غرابة أن تجد النظامَ، كائنًا ما كان، سياسيا، أو اجتماعيا، أو تربويا، أو غير ذلك، ليستْ له الأهمية الأولى، بحيث يدخله الأفرادُ ليخدموه، فيخدمون مصالحهم، ثم يتركونه، وهو أكثر رسوخًا، بل إننا نجد عندنا أنّ أيسر الأمور، أن يفشل النظامُ القائمُ على أيدي كل قادمٍ جديد، ليقيم الجديدُ نظامَه الخاص خدمةً لحزبه، ولشيعتِه، إمعانًا منه في توكيد شخصه في خدمة الحزب، أو الأسرة الكبيرة، أو المنظّمة التي يدين لها بالولاء؛ كل ذلك على حساب البناء الاجتماعي، أو السياسي، الذي جاء ليخدمَه، فادّعى الوطنيةَ كذبًا ونفاقًا، و[الوطن، كما قال (نيتشه) هو أكبر كذْبة].. وسأضرب لكَ مثالاً على كذب هؤلاء: تحدّثَ الخطابُ الملكي السّامي ودعا إلى تغيير الزعامات، وتشبيب الأحزاب؛ فهل استجاب حزبٌ للنداء الملكي؟ أبدًا، لم ولن يحدث.. لقد دعا جلالةُ الملك إلى فتح حوار اجتماعي جادّ وشامل؛ فهل استُجيب لنداء جلالة الملك؟ أبدا، لقد وُضعتِ العراقيلُ، واعتُمِد التباطؤ، وسادت سياسة التلكُّؤ.. كلّهم يتحدثون عن ظاهرة الهجرة، ونسوا أنهم، هم، أوّل من دشّن الهجرةَ؛ فكل واحد هاجر إلى بلد بقلبه، وتأبّط جنسيةَ بلد أجنبي، وله جوازُ سفر، وبذلك هاجرتِ الأموال، فلماذا لا يناقشون ظاهرةَ هجرة الأموال لو كان يهمّهم سلامةُ، وأمنُ، واستقرارُ البلاد؟ ففي مظاهر الفساد مصالحُ جمّة، ولا يتحدّثون عن الفساد إلاّ نفاقًا؛ فهم كلّهم [حَرّاکون] وشعارهم هو [عفا الله عمّا سلف] وتبّا للفاسدين وللمفسدين..