دعونا من صور الحلوى التي خرج بها البرلمانيون بعد انتهاء افتتاح الدورة التشريعية، فهي تفاهة لاتستحق التعليق عليها، ولا على من أرسلوا المصورين لكي يلتقطوها، ولا على من خرجوا يحملون في أيديهم المأكولات، والذين ذكرنا مشهدهم الجائع بمشهد شباط وهو يتعارك بالأيدي مع اللبار في مناسبة محزنة مشابهة، لكأن جهة ما تحرص كل مرة على تحويل الأنظار لأجل لفت انتباه المغاربة إلى التفاهات ومنعهم من النظر إلى الأهم ..
والأهم الحقيقي والوحيد يوم الجمعة الفارط، كان كلام جلالة الملك في خطابه الافتتاحي للدورة وهو يعلن باسمه الشخصي وباسم كل المغاربة في كل مكان من هاته الرقعة الجغرافية والتاريخية والحضارية التي تسمى المغرب الملل الجماعي والعياء التام والكامل من الانتهازيين، ومن الذين يريدون من المغرب أن يعطيهم فقط، ولايريدون بالمقابل أن يعطوه شيئا.
المغرب "يجب أن يكون بلدا للفرص، لا بلدا للانتهازيين. وأي مواطن، كيفما كان، ينبغي أن توفر له نفس الحظوظ، لخدمة بلاده، وأن يستفيد على قدم المساواة مع جميع المغاربة، من خيراته، ومن فرص النمو والارتقاء". هكذا تحدث جلالة الملك، وهكذا التقط المغاربة العبارة بكل الوضوح التام والكامل وفهموا المغزى منها والمراد من قولها وعرفوا أيضا المعنيين بها، الذين مثل بعضهم مرة أخرى دور من لم يفهم شيئا فسارع إلى التصفيق، ومثل بعضهم الآخر دور من ليس معنيا بكل هذا الكلام وذهب بعيدا عن الجميع يواصل انتهازيته، ومثل آخرون أدوارا أخرى لن تفاجئنا طالما أصبحنا مقتنعين أن علاقتهم بنا هي التمثيل علينا فقط لاغير.
لكن المهم الفعلي في الحكاية هو أن الشعب التقط النبرة الصادقة والواضحة التي تحدث بها جلالة الملك، وفهم أن كل الأصوات التي تعالت وتتعالى في الشارع وفي مواقع التواصل الاجتماعي وفي كل مكان من طرف شباب مغاربة غاضبين يريدون - وهذا حقهم المشروع الذي لا يناقش - من بلدهم أن يفتح لهم مجال تقديم شيء له وأيضا يريدون الانتفاع من هذا البلد، هي أصوات وصلت إلى أعلى سلطة في البلاد، وأن الرد عليها يأتي هاته المرة عبر خطوات حاسمة ومرسومة بدقة ومعتمدة على أجل زمني دقيق لا يقبل تأخيرا ومتوجهة إلى كل جهة مسؤولة عن قطاع ما، لكي تلعب دورها الذي تتقاضى مقابله من مال المغاربة العام رواتبها وامتيازاتها، وإلا فلتخل المكان لمن يستطيع القيام بهذا الأمر لصالح هذا الشعب ولصالح هذا البلد.
عندما يخطب ملك البلاد مرة وثانية عن المشروع التنموي، ويوجه كل الإشارات من موقعه الدستوري إلى الاختلالات التي تعيق سيره، ويتحدث عن ضرورة المراجعة وينتظر من الطبقة السياسية والحزبية ومن النخبة أن تأتي ببعض الجواب ولا يأتي أي شيء يتحمل عاهل البلاد مسؤوليته - مرة أخرى من موقعه الدستوري - ويعلن في افتتاح الدورة البرلمانية عن تكليف لجنة خاصة تضطلع بمهمة تجميع وترتيب وهيكلة المساهمات المتعلقة بالنموذج التنموي الجديد وبلورة الخلاصات، ويحدد لهاته اللجنة بالتدقيق ثلاثة أشهر لكي تتقدم بنتائج عملها
عندما يسمع ملك البلاد صوت الشباب المغاربة عبر الفيسبوك، أو في المظاهرات في الشارع، أو في مختلف المواقع التي يوصلون من خلالها رسالة إلى ملكهم عن البطالة، ورسالة أملهم الذي لايجب أن يموت في هذا البلد ولا يجب أن يدفع بهم إلى تجريب كل أنواع الموت الأخرى هربا أو محاولة للنفاذ يستجيب الملك للنداء، ويرد عليه بالحلول العملية وبالتأكيد على أن أن التكوين المهني يعد "رافعة قوية للتشغيل إذا ما حظي بالعناية التي يستحقها وإعطاء مضمون ومكانة جديدين لهذا القطاع الواعد". ولهذه الغاية، يضيف جلالة الملك، يتوجب العمل على مد المزيد من الممرات والجسور بين التكوين المهني وبين التعليم العام "في إطار منظومة موحدة ومتكاملة مع خلق نوع من التوازن بين التكوين النظري والتداريب التطبيقية داخل المقاولات".
ويذهب ملك البلاد بعيدا ويرد على من قالوا بأن البعض سيؤدي الخدمة العسكرية الوطنية والبعض لا، اعتمادا على ماعرفه المغاربة قديما من تمييز بين بعضهم البعض، ويعلنها دون مواربة أو نقاش أو جدال "جميع المغاربة المعنيين، دون استثناء، سواسية في أداء الخدمة العسكرية، وذلك بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم الاجتماعية وشواهدهم ومستوياتهم التعليمية".
وعندما نمضي الوقت كله في تعليم صغارنا والأقل صغرا منذ بداية عهدهم بالحياة أن المغرب بلد فلاحي ولا نرى أثرا حقيقيا لهذا الوصف على التقليل من نسبة البطالة في البلد واستيعاب يد عاملة أكبر تعفينا من تحمل آثار هجرة قروية مدمرة لا المدن مستعدة لها ولا القرى تتقبلها ولاالنتيجة النهائية لها تسر عدوا ولا حبييا، يقول جلالة الملك بأن القطاع الفلاحي يمكن أن يشكل خزانا أكثر دينامية للتشغيل، ولتحسين ظروف العيش والاستقرار بالعالم القروي.
ويدعو جلالته "لتعزيز المكاسب المحققة في الميدان الفلاحي، وخلق المزيد من فرص الشغل والدخل، وخاصة لفائدة الشباب القروي." لأجل خلق طبقة وسطى فلاحية ما أحوجنا إليها وما أحوجنا إلى جعلها تسير جنبا إلى جنب رفقة الطبقة الوسطى الحضرية التي تعد صمام أمان فعلي لكل المجتمعات وليس لمجتمعنا فقط.
هي خطوات دقيقة ومحددة تقدم بداية طريق ورسالة أمل فعلية تنهي حالة انتظارية طالت أكثر من اللازم للأسف الشديد، ووجد فيها البعض راحته ووجد فيها بعض آخر تخليصا له من أي مسؤولية، وإراحة له من بذل أي عناء.
المغرب "يحتاج، اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى وطنيين حقيقيين، دافعهم الغيرة على مصالح الوطن والمواطنين"، هكذا شدد صاحب الجلالة على حاجة المغرب أيضا "إلى رجال دولة صادقين يتحملون المسؤولية بكل التزام ونكران ذات".وهذه الحاجة تفترض تشجيع الأحزاب السياسية المغربيةعلى القيام بدورهاعلى أكمل وجه دون أن تجد أي مبررللنكوص من قبيل انعدام الإمكانيات المادية وماإليه من وسائل التبريرالتي لم يعد يتقبلها المواطن المغربي.
في هذا الصدد الحكاية ليست حكاية مزيد من المال للأحزاب وكفى مثلما أراد بعض المغرضين الإيهام. المسألة استجابة لحاجة ملحة تبدو على هاته الأحزاب، وهي لا تتوفر على نخب متخصصة كل في ميادينه، وتكتفي بجمع بعض من المناضلين داخلها، فيما تنفر منها الطبقات المتعلمة ذات التخصص العالي لأنها غير مغرية لا ماديا ولا اجتماعيا مايفترض إعادة النظر حتى في طريقة اشتغال أحزابنا التقليدية، ومنحها الوسائل الكفيلة بتقريبها من هاته الطاقات، وتشجيع هاته الأخيرة على تقديم خبراتها لهاته الأحزاب إن من باب الانخراط فيها أو من باب العمل داخلها دون انخراط مما هو جار في كل أنحاء العالم المتحضر.
كان خطابا هاما للغاية، أتى في لحظة انتظار قصوى ورد بالنقط المحددة على الأسئلة العالقة، وقدم بداية الحلول التي يجب أن يشتغل عليها المعنيون بها أي السلطة التنفيذية (الحكومة) والأحزاب سواء كانت في الأغلبية أو في المعارضة كل حسب دوره الدستوري المحدد بشكل واضح لا يقبل لبسا إلا لدى من يريدون إدامة اللبس وسيلة لعدم الاتشغال.
هؤلاء قالها لهم الملك باسم كل المغاربة الجمعة الماضي ولابأس من تكرارها لأنها جملة عميقة وقوية لاقت استحسانا كبيرا في نفس كل الذين سمعوها في هذا الوطن وخارجه من أبنائه "المغرب "يجب أن يكون بلدا للفرص، لا بلدا للانتهازيين. وأي مواطن، كيفما كان، ينبغي أن توفر له نفس الحظوظ، لخدمة بلاده، وأن يستفيد على قدم المساواة مع جميع المغاربة، من خيراته، ومن فرص النمو والارتقاء".
الآن فقط انتهى الكلام فعلا وابتدأ الفعل، وابتدأ زمن القادرين على الفعل وإتاحة الفرصة لهؤلاء القادرين على الفعل وحدهم لملء الساحة واحتلال كل الواجهات.
الآخرون، محترفو الكلام الذي لا يقدم ولا يؤخر، مكانهم المقاهي، والبارات والحانات والحمامات ومختلف المواقع التي يدردش فيها الإنسان مع نفسه دون كلل أو ملل ومع الآخرين أيضا وهو يعرف أن ليس لديه ماقد يعطيه لا لنفسه ولا للآخرين وأن « اللي بغا يربح العام طويل ».
بالنسبة لهذا الشعب، بالنسبة لملكه، بالنسبة لقواه الحية الحقيقية: اللي بغا يربح، عليه أن يعمل حقا فالعام ليس طويلا مثلما نتخيل أيها السادة.
بقلم: المختار لغزيوي