جغرافية الشعبوية
في 2017 اختار معجم كامبريدج "الشعبوية" كلمة السنة، وذلك لأن البحث عن هذه الكلمة، حسب موقع المعجم ذي الصيت العالمي، عرف زخما كبيرا بعد انتخاب ترامب وبعد استجوابين للبابا فرانسيس، الأول مع جريدة "البايس" الإسبانية في يناير من نفس السنة (أي في الوقت الذي كان فيه الرئيس الجديد لأمريكا يؤدي القسم)، والثاني لجريدة "دي زايت" الألمانية في مارس من نفس السنة، واللتان حذر فيهما البابا من خطر تصاعد المد الشعبوي عبر العالم. يستعمل معجم كامبريدج قاعدة بيانات تحتوي على حوالي مليار ونصف من الكلمات، يقيس من خلالها لا فقط عدد المرات التي يتم فيها البحث عن كلمة معينة، ولكن كذلك عدد المرات التي تعرف فيها هذه البحوث ذروة معينة بمناسبة حدث معين (انتخاب ترامب، أدائه القسم، استجوابي البابا إلخ.)
يقول ويندي نيكولز، مدير دار النشر بجامعة كامبريدج، "إن ما يميز كلمة "الشعبوية" عن غيرها هي أنها تمثل ظاهرة محلية وكونية حقيقية في الوقت ذاته، في زمن يتصارع فيه القادة والساكنة عبر العالم مع قضايا الهجرة والتجارة، و تنامي النزعة القومية، والاستياء من الوضعية الاقتصادية المتردية."
والاهتمام بهذه الكلمة/المقولة يأتي بعد عقدين من التجارب التي ركب فيها الكثير من القادة على موجة السخط الشعبي لتقديم وصفات سهلة ومغرية عبأت الناخبين لقلب موازين القوى في كثير من البلدان. بعد أكثر من سنة على تربع دونالد ترامب على كرسي الرئاسة ب 1600، شارع بنسيلفانيا بواشنطن، وفي قلب أوربا الوسطى، تمكن فيكتور أوربان وحزبه "فيديش" في أبريل من 2018 من الحصول على أغلبية مريحة في البرلمان الهنغاري لتنفيذ سياسته المعادية للهجرة وللصحافة المستقلة وللمجتمع المدني (المدعومين حسب أوربان من طرف الملياردير الأمريكي ذي الأصول الهنغارية جورج سوروس).
وصول ترامب الى البيت الأبيض كان محوريا وحرر الكثير من القادة عبر العالم ممن كانوا يتريتون قبل الإفصاح عن أجنداتهم الشعبوية. إن ترامب صريح جدا في معاداته القوية للهجرة وللعولمة والتبادل الحر وإعادة توطين المقاولات وللمجتمع المختلط ثقافيا. وهذه الأجندة تجد حلفاء لها موضوعيين في كثير من دول العالم. في أوربا، لم تكن هنغاريا وحدها من قوت عود "الشعبويين"؛ في ماي الماضي، أفضت الانتخابات الإيطالية إلى صعود حركة "الخمسة نجوم" اليسارية و "الليكا" اليمينية المتطرفة، على أساس أجندة معادية لمؤسسات الدولة والهجرة والنخبة التقليدية الإيطالية وأوربا، مما جعلهما يتحالفان (في زواج غير طبيعي) لتكوين الحكومة الجديدة.
وحتى قبل صعود ترامب بشهور، كانت المملكة المتحدة على موعد مع تحول تاريخي على مستوى علاقتها بأوربا. في 23 يونيو 2016، صوت البريطانيون لصالح فك الارتباط مع الاتحاد الأوربي على خلفية حملة شرسة قام بها حزب "اليوكيب" بمساندة من المشككين في جدوى الوحدة الأوربية من المحافظين أنفسهم، وهي حملة بنيت على أنصاف الحقائق وشعارات معادية لبروكسيل وللهجرة وللبيروقراطية الأوربية، وهو ما صفق له ترامب قبل وبعد وصوله للبيت الأبيض.
يوم 25 دجنبر من نفس السنة، استطاع حزب "سيريزا" في اليونان (والذي هو في الأصل تحالف عريض لشتات اليسار) أن يفوز بالانتخابات التشريعية وسط مخاوف من خروج اليونان من منطقة اليورو؛ فوز سييريزا أتى على أساس برنامج شبه شعبوي تمثل في نبذ المؤسسات التقليدية ومعارضة سياسة التقشف التي فرضتها ألمانيا والمؤسسات المالية الدولية والتشكيك في نجاعة العمل الجماعي الأوربي وأجندة اقتصادية تتمثل في التأميم وضرب امتيازات النخبة و توفير وجبات الغداء للعاطلين (كانت البطالة آنذاك قد وصلت إلى 25 % و بطالة الشباب إلى 50 %) وإعادة ربط المنازل التي لم تؤد فواتير الكهرباء بالشبكة الكهربائية...
في إسبانيا، أدت الأزمة الاقتصادية الخانقة إلى تذمر جزء كبير من المجتمع الإسباني من الحزبين التقليديين الذين تناوبا على الحكم خلال العقود الأخيرة، الحزب الشعبي اليميني والحزب الاشتراكي. استغل جزء من اليسار المتطرف المناهض للرأسمالية والتروتسكيون والأحزاب العمالية الصغيرة المحلية والتجمعات الماركسية وما بعد الماركسية الوضعية لتعبئة عدد كبير من المنخرطين والناخبين لصالح حركة سياسية جديدة متأثرة بما يسمى "المد الزهري" في أمريكا اللاتينية (الذي دشن لوجوده هيوغو تشافيز في فنزويلا وإيفو موراليس في بوليفيا). أجندة بوديموس تركز على "أن كل ثروة البلاد مهما كان شكلها ومن يمتلكها يجب أن تكون في خدمة مصلحة الشعب" دون أن يحدد كيف سيقوم بذلك، هل عبر التأميم أو عبر فرض ضرائب إضافية على الشركات ، وعلى ضرورة إعادة النظر في قضية السيادة الوطنية (منتقذا معاهدة لشبونة ل2009 والتي أعطت لمؤسسات الاتحاد الأوربي سلطات واسعة)، وعلى مساندة تقرير المصير (في كاطالونيا مثلا وحتى خارج الاتحاد الأوربي في الصحراء المغربية وغيرها)...هذه الأفكار الغامضة والحلول السهلة هي التي بوأت بوديموس مركز ثالث أكبر حزب سياسي في إسبانيا (بعد انتخابات 20 دجنبر 2015) وجعلت منه رقما جديدا في المعادلة السياسية في هذا البلد.
الأمثلة كثيرة ومتعددة لتنامي الخطاب الشعبوي وقد هم دولا أوربية أخرى مثل النمسا، والدانمارك وفرنسا وهولندا، وسلوفاكيا و مؤخرا السويد، أحد الدول أكثر تقدمية في التعامل مع قضايا الهجرة وحقوق الإنسان والعولمة.
كان لأمريكا اللاتينية السبق في إعادة تجديد الخطاب الشعبوي منذ عقدين من الزمن. بعد ولاية فوجيموري المأساوية في البيرو في التسعينات، دشن هيوغو تشافيز منذ تسلمه الرئاسة في 1999 و حتى موته في 5 مارس 2013 لعصر جديد من البوليفارية يعتمد على معاداة الرأسمال المتحكم في المركب الاقتصادي الصناعي لإنتاج للبترول، وضرب الطبقة المتوسطة المساندة للأحزاب الليبرالية، وتغذية العداء ضد أمريكا، ومساندة الجماعات المسلحة في دول الجوار، وخلق "البديل البوليفاري للأمريكيتين" مع كاسترو وموراليس وغيرهما، وتنمية خطاب مساندة الطبقات الشعبية الفقيرة... عقدين من حكم تشافيز ورفيقه مادورو جعلت من فنزويلا في 2018 بلدا يعرف نقصا حادا في الغداء والأدوية، وتنامي الجريمة، وتدهور الناتج الداخلي الخام بحوالي 13%، وارتفاع التضخم إلى حوالي مليون بالمائة...بلاد على حافة الانهيار بعد عقدين من الشعبوية التشافية النيوبوليفارية.
غير بعيد عن فنيزويلا، اعتمد إيفو موراليس في بوليفيا منذ 2006 على سياسة إثنو-شعبوية مبنية على الدفاع عن حقوق الأغلبية المنحدرة من السكان الأصليين ومعاداة الشركات الكبرى وسن سياسة التأميم ووضع حد للتأثير السياسي والاقتصادي الأمريكي. رغم نجاح موراليس في التقليص من الفقر والأمية ودعم حقوق السكان الأصليين، فإن دفاعه عن زراعة الكولا والتي تستعمل في تصنيع الكوكايين وميله نحو الاستبداد وعنصريته المضمرة تجاه البيض من أصل أوربي جعلت منه يساريا مثيرا للجدل لا يتوانى في استخدام خطاب شعبوي كلما اقتضى الحال ذلك.
إذا أضفنا إلى هؤلاء رجب الطيب أردوغان في تركيا ومحاولته مؤخرا إعادة إنتاج الاستبداد والمجد الغابرالعثماني؛ وروبيرت موغابي وإذكاءه للنعرة الإثنية وأحقية السود في امتلاك المزارع ولو بالقوة في زمبابوي؛ ومحمد مرسي والإخوان المسلمين بمصر وشعارهم الأجوف حول كون "الإسلام هو الحل"؛ ورانيل ويكرامسينغ في سري لانكا وسياساته الشعبوية المتمثلة في الرفع من الأجور والخفض من الضرائب والخفض من أثمان المواد الغذائية رغم عدم قدرة لا الاقتصاد ولا المالية العمومية على تحمل ذلك وكذا عودته إلى الخطاب الهوياتي السينهالي على حساب حقوق الأقلية التاميلية؛ وإلهام علياف بأزربيدحان وسياسته المتمثلة في الخطاب القومي المضاد لأرمينيا،
وسياسات ناطحات السحاب والبنايات على الطريقة الباريزية ومحاولته إعادة إنتاج الحنين للاستبداد السوفياتي--وهو سيناريو يتكرر في تركمانستان، وغيرغيستان، وكازاخستان، وأزباكستان والبلاروس (وقبل سنوات في أوكرانيا) وغيرها--اذا أضفنا كل هذا سنجد أن الشعبوية قد غزت مناطق متعددة ومختلفة من العالم.
إن الخطاب الشعبوي أصبح يغري الكثير من المجتمعات، بل وأصبح عاملا أساسيا في التقلبات والتغيرات السياسية التي تعرفها أوربا وآسيا والأمريكتين وحتى إفريقيا والشرق الأوسط. هناك من يدق ناقوس الخطر خائفا من تحول الموجة الشعبوية إلى قاعدة إيديولوجية لشرعنة العنصرية والاستبداد وهناك من يرى فيها فرصة لتجديد النخب وإعطاء الحق للفئات المهمشة للتعبير عن مشاغلها (إرنيستو لاكلاو)؛ بينما يرى طرف ثالث المد الشعبوي على أنه نتيجة حتمية للعولمة والتغيرات المناخية والهجرة والانتقال إلى العصر الآلي للإنتاج، لذا فلا يمكن تجاوز أزمة الشعبوية دون تجاوز مسبباتها. في الجزء المقبل من هذا المقال.
سنتعرض إلى أسباب وعوامل نمو هذه النزعة على أن نخصص جزءا ثالثا للآفاق المستقبلية لنمو هذه النزعة في المغرب وعبر العالم.