بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لا نستخف بالحاجات الإنسانية والضرورات الحياتية الكبيرة للشعب الفلسطيني كله في الوطن والشتات، في المدن والمخيمات والتجمعات، شأنه شأن بقية شعوب العالم، فهو في أمس الحاجة إلى المساعدات المالية والمعونات المادية للنهوض بشؤونه، وتسيير حياته، وتغطية احتياجاته، وتمكينه من الصمود والثبات، ومساعدته في التحدي والبقاء، ومواصلة المقاومة واستمرار النضال، وهذه الأهداف قد لا تتحقق في ظل ظروفٍ معيشيةٍ صعبة، ومعاناة يوميةٍ مستمرةٍ، وحصارٍ محكمٍ، وعقوباتٍ دائمةٍ، وحرمانٍ مستدامٍ، يسببه الاحتلال وتكرسه سياساته، وتزيد من آثاره ممارساته اليومية ضد الشعب الفلسطيني، إذ يتعمد حصاره ومعاقبته، وتجويعه وحرمانه، وتدمير اقتصاده وتخريب مؤسساته، وتعطيل أعماله وإفشال مشاريعه.
ولهذا فإن توفير مختلف الحاجات الإنسانية للشعب الفلسطيني، وتمكينه من العيش الحر الكريم، ضرورةٌ إنسانيةٌ وحاجةٌ وطنية، يقع عبء توفيرها على العرب القادرين، وعلى المسلمين المؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية، في الوقت الذي تتحمل فيه الأمم المتحدة والدول الكبرى في العالم التي هي شريكٌ في الأزمة وسببٌ في النكبة، المسؤولية الأساس في التدهور الحاد الذي لحق بقدرات الشعب الفلسطيني الاقتصادية والحياتية، ولهذا فإن الدور المنوط بها أكبر، والمسؤولية المترتبة عليها أوجب، وعليها أن تضمن توفير مستلزمات الحياة للشعب الفلسطيني، وتمكينه من التعليم والتشغيل، والصحة والنظافة، والسفر والإقامة، وغير ذلك من الاحتياجات والحقوق الطبيعية للإنسان عموماً.
لا يستطيع أحدٌ أن ينكر معاناة الشعب الفلسطيني الإنسانية والمادية والاجتماعية، أو يخفي مظاهر العيش الصعبة التي يعيشها أبناؤه، والأوضاع المزرية لمخيماته، والشكوى المستمرة لسكانه، والإهمال المتعمد لقضيته، فتكاد وجوههم تروي حكايتهم، وعيونهم تقص معاناتهم، وصمتهم ينطق بألمهم ويعبر عن حرمانهم، رغم أنهم يناضلون من أجل الانتصار على واقعهم، والخروج من أزمتهم، والسيطرة على مشاكلهم، وابتداع وسائل تمكنهم من مواجهة الظروف القاسية التي تحيط بهم وتستهدفهم، وتضيق عليهم وتخنقهم، خاصةً أن أغلب اللاجئين الفلسطينيين يعيشون في أكثر من دولةٍ من أماكن لجوئهم ظروفاً معيشية صعبة، ويعانون من قيودٍ حياتية مهينة، تفرضها عليهم الدول المستضيفة، إذ تمنعهم من العمل في الكثير من المهن، وتحول دون حريتهم في التنقل والسفر، وتضيق عليهم في التملك والإقامة، وتفرض عليهم شروطاً ورسوماً، وتزيد في أعبائهم المادية وتكاليفهم المالية، رغم ضيق ذات اليد والعوز والحاجة.
رغم هذه الظروف السياسية والاجتماعية والمادية والإنسانية المأساوية التي يعيشها الفلسطينيون في الوطن والشتات، إلا أنهم أقوى من واقعهم، وأصلب من أزمتهم، إذ ينتصرون كل يومٍ على القيود والأغلال، ويهزمون الفقر والحرمان، ويحاربون الجهل والمرض، ويقهرون السياسات المعادية والممارسات المستفزة، ويسجلون في كل يومٍ انتصاراتٍ باهرةٍ في كل مكانٍ، ويتركون آثاراً يفخرون بها ويتيهون، ويعترف بها المحبون والمعادون، فبرع منهم العلماء والأساتذة، والمفكرون والمخترعون، والساسة والمقاومون، وبرزت أسماءٌ لامعة في سماء التجارة والاقتصاد، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، والفنون المهنية والمهارات الإدارية، وتركوا أثراً إيجابياً كبيراً في البلاد التي يقيمون بها، والدول التي تستضيفهم ويقيمون فيها أو يحملون جوازها ويتمتعون بجنسيتها.
الفلسطينيون جميعاً في الوطن والشتات، في المدن والمخيمات، اللاجئون والمواطنون، والمقيمون والمجنسون، والفقراء والأغنياء، والمرضى والأصحاء، والأسرى وذوو الشهداء، يتجاوزون حاجاتهم الخاصة وينسون معاناتهم الشخصية، ولا يقايضون وطنهم بكيس طحينٍ ولا بحصص غذائية وبوناتٍ إغاثية، ولا يفرطون بحقوقهم مقابل وعودٍ بالعمل ومشاريعٍ بالإنماء، ومساعي لتحسين الاقتصاد وخلق فرصٍ للعمل واستيعاب الشباب وتمكين العاطلين، وتمويل المستشفيات وضمان سير المدارس والجامعات، أو تسهيل إقامتهم وتشريع القوانين لخدمتهم والتخفيف عنهم، أو دمجهم وتيسير سبل عيشهم، أو تجنيسهم وتحويلهم إلى مواطنين في الدول المستضيفة لهم، وغير ذلك مما يظنه البعض أنه سينسيهم وطنهم، وسيعوضهم عن بلادهم، وسيرضيهم عن سنوات حرمانهم ومعاناتهم، وسيوقف نضالهم ويشرع للعدو استيطانه لوطنهم وانتزاع حقهم في ملكيته والعودة إليه.
كما يخطئ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأركان إدارته المولجين بالقضية الفلسطينية وقضايا الشرق الأوسط، عندما يظنون أن وقف دعم وكالة الأونروا، والدعوة إلى تفكيكها والتخلص منها، وحرمان مئات آلاف الفلسطينيين من الخدمات التي تقدمها على المستويات التموينية والصحية والتعليمية والإغاثية، وممارسة الضغط المادي عليهم، من خلال تجفيف منابع الأونروا، ودفع دولٍ أخرى للتأسي بها والامتناع مثلها عن دعم المؤسسة، فضلاً عن وقف المساعدات المالية المباشرة المقدمة للسلطة ومشاريع التنمية الفلسطينية، وتجميد المساهمات والمعونات المقدمة للطلاب والشباب والمرأة، وغيرها مما كان مخصصاً للنهوض بالأوضاع الاقتصادية والمعيشية للشعب الفلسطيني.
تخطئ الإدارة الأمريكية عندما تعتقد أن سياسة التجويع والحرمان، والتضييق والحصار، والتجفيف والمنع، ومحاربة الداعمين ومعاقبة المتعاطفين، ستجبر الشعب الفلسطيني على الركوع والخنوع، والاستسلام والخضوع، وستدفعهم للقبول بما يسمى بصفقة القرن، التي تشرع الكيان وتمنحه وطناً وأرضاً، وسلاماً وأمناً، ومقدساتٍ وتاريخاً، في الوقت الذي تحرم فيه الفلسطينيين من قدسهم ومقدساتهم، ومن وطنهم وبلادهم، وتمنعهم من العودة إلى ديارهم وقراهم، وتقر للعدو بشرعية الوجود وطول البقاء، وتضمن له العلاقة الطيبة وحسن الجوار، وتمكن له بقوة السلاح وتفوق القدرات، بينما تؤسس لشتاتٍ فلسطيني كبيرٍ، وتمزيقٍ شعبي مهولٍ، تذوب فيه الهوية، وتبهت فيه الشخصية، وتمحى فيه صفحات التاريخ، ليعاد كتابته من جديدٍ بأقلامٍ الأقوياء وإرادة المتجبرين والمحتلين.
فلسطين العربية وطنٌ للبقاء، وأرضٌ سقفها السماء، ومقدساتها إرث الأنبياء، وتربتها مجبولةٌ بدماء الشهداء، وتاريخها ناصعٌ بتضحيات الأبناء، يملكها الفلسطينيون وحدهم، وسيعيش فيها العرب دون سواهم، ولن ينساها أهلها ولن يفرط فيها أصحابها ولو ضاق القيد على المعصم، واكتوت الظهور بالسياط، وتعذبت النفوس بالحرمان، وعانت الأجساد من الجوع والإعياء، وشكت الأرواح من الظلم واختلال موازين العدل والإنصاف، فستبقى قضيتنا فلسطين الوطن والوعد حقاً مشروعاً للنضال والعودة، وغايةً للفداء والتضحية، نستعيدها بقوتنا وإرادتنا، وبثباتنا وصمودنا، وبأنفسنا وأجيالنا، ولن يكسر الجوع ظهرنا، ولن تحنِ المعاناة جباهنا، ولن يضعف الحصار بإذن الله عزمنا.