ولأن السحر ينقلب دائما على الساحر، ولأن الشيء كلما زاد عن حده إلا وانقلب إلى الضد تماما، فإن وتيرة نشر فيديوهات "الحريك" كشفت في النهاية لكل من كانوا يتتبعون الفيديوهات بل ويعيدون نشرها أن الأمر ليس بريئا بالمرة، وأن الأكمة حبلى بعديد الأشياء فعلا التي وراءها.
الفيسبوكيون العاديون (ونحن مضطرون لاستعمال هاته العبارة بعد أن اتضح أن هناك فيسبوكيين عاديين وأن هناك فيسبوكيين تحركهم أشياء أخرى) فهموا مع توالي الأيام، ومع وتيرة النشر الغريبة والكبيرة للفيديوهات أن يدا ما تمسك بالريموت كونترول وهي التي فتحت ماأسميناه منذ بدء هاته الظاهرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي "الفيديوتيك البحرية" هاته.
دعوكم من حكايات البؤس الاجتماعي وأن الشعب كله فقير وأن المغاربة قرروا جميعا في نفس اللحظة والآن والحين أن يقفزوا من مركب وطنهم، وكلفوا آخر باق منهم في الوطن بأن يطفئ الضوء.
هاته الرواية لا يبتلعها إلا عقل بسيط، بل وساذج حد الغباء.
حكاية النشر المتوالي لفيديوهات الحريك هاته تزامنت مع عدة أشياء في الوطن لم ترق لبعض القاطنين خارج الوطن، لكن المتحدثين دوما وأبدا باسم الوطن، رغم أن هذا الوطن المسكين لم يكلفهم بشيء ولم ينتظر منهم شيئا، وقد فهم هو وساكنوه أنه لايمكن انتظار أي شيء من هؤلاء الذين لايفرحون لنا إلا إذا مسنا سوء، والذين يصيبهم غيظ كبير كلما فرجت.
هؤلاء شاهدناهم وشاهدنا تعليقاتهم في أحداث الحسيمة من قبل يوم كنا نذهب ونأتي إلى ومن الحسيمة يوميا دون أي إشكال مثل بقية المدن المغربية، وكانوا هم ينشرون في الفيسبوك من أمستردام أو من برشلونة أو من برلين أو من أمكنة أخرى أن الدخول إلى الحسيمة ممنوع وأن الخروج منها ممنوع أيضا.
هؤلاء رأيناهم في أحداث جرادة يوم كانوا ينقلون لنا اللايفات مباشرة من مدن أوربية استقروا بها، وكنا نحن في جرادة نحاور عمال المناجم محاولين حقا فهم مشاكلهم.
هؤلاء رأيناهم أيضا في حوادث سير آلمت المغرب ولم تحرك فيهم هم إلا رغبة التشفي عبر الأنترنيت، وفي مآسي أصابت الناس قضاء وقدرا ولم يروا هم فيها إلا وسيلة طيبة للنيل من الوطن وللتشهير به.
والعجيب الغريب هو أن هؤلاء يشكلون وسط مهاجرينا قلة قليلة، بل هم الندرة بعينها، لكن صوتهم عال، وهم قادرون بفضل مايتوصلون به من دعم على أن يظلوا اليوم بطوله في الفيسبوك لايفعلون شيئا سوى الإساءة للوطن. وحين يلتقي بهم مهاجر أو أكثر من الذين عادوا من المغرب ولم يجدوا مايكتبه هؤلاء يوميا في مواقع التواصل يسارعون إلى الأوصاف الجاهزة والعبارات التي لايفهمون حتى معانيها ويكتفون.
هؤلاء وجدوا من بين دول جارة و"شقيقة" دعما كبيرا، وهي تبحث عنهم "بالريق الناشف" مثلما نقول لأنهم يحملون على الأوراق جنسيتنا ويصلحون للعب هذا الدور البئيس فعلا.
ومع ذلك دعونا لانعطيهم أكثر من حجمهم، لأنهم أولا نادرون وقلة قليلة فعلا وسط أبناء هذا الوطن من المغتربين، ولأنهم ثانيا كشفوا أنفسهم بأنفسهم بفعل غباء تعاملهم مع الموضوع، وبفعل إكثارهم من وضع الأشرطة هاته المرة، حتى أضحى كل واحد منا يسأل نفسه صباح مساء إن لم يكن قد التحق هو بنفسه بكوكبة "الحاركين".
الأهم من هؤلاء ومن اللاعبين بهم أن نمنع أسباب مثل هذا السلوك. أن نبحث عن المبرر الذي يجعل واحدا منا فقط يقرر في لحظة يأس من كل شيء أن يضع عمره في كف قارب لايطمئن وأن يرحل.
حتى لو غادر الوطن واحد فقط منا، وبغض النظر عن المزايدات الفارغة لمن تعرفون فإن المسألة يجب أن تنادي فينا كل حس، ويجب أن تكون مدخلا لطرح السؤال "علاش؟".
أن تهاجر بشكل شرعي ونحو آفاق رحبة، ووفق شروط عمل أفضل من التي توفرت لك في وطنك هذا أمر. أن تهاجر سرا وعبر قارب مستعد للغرق أكثر من استعداده لأي شيء آخر، وأن تذهب إلى بلاد أجنبية قد لاتتقن حتى لغتها وأن تشتغل في مهن جد صغيرة، أو أن تعيش في أحياء يعاف الحس السليم من السكن فيها وأن تمثل كل مرة دور المبتهج بما وقع لك وأنت تعرف أنك تحيا في البؤس وأنك لن تخرج منه أبدا فهذا شيء آخر.
لذلك ومع التنبيه للدور الملتبس والعدائي الذي يلعبه البعض عبر مواقع التواصل الاجتماعي كلما مست مصالحه، وكلما رأى الفرصة سانحة للنيل من الوطن فإن انتباها إلى شبابنا داخل الأسر أولا وداخل الأسرة الكبيرة أي الوطن أمر يفرض نفسه علينا جميعا.
وعوض الاكتفاء بالفرجة البئيسة على لعب المتآمرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي هناك دور أساسي وحاسم علينا جميعا أن نلعبه قوامه إقناع الجيل الجديد أن الهروب من البؤس لا يكون إلى بؤس أسوأ منه، بل إلى واقع أفضل، وأن الحلم بهذا الواقع الأفضل يكون أكثر فعالية لو اشتغلنا على تحقيق هذا الحلم واقعيا، وعلى أرض هذا الوطن، ووفق المقدور عليه من الأشياء.
الوقوف على ناصية كل شيء، والإمساك بالجدران ليل نهار لئلا تسقط، وترديد العبارات الغبية عن سوء الحظ، وعن "هاد البلاد اللي ماعطاتنا والو"، وبقية الترهات لن ينفع في أي شيء على الإطلاق. بالعكس هو سيزيد طين هذا المكان بلة ولن يغير من الواقع شيئا.
مؤخرا ونحن نسجل لموقع "أحداث.أنفو" حوارا مع شباب مغاربة لفتت انتباهي جملة قالها صغير يبلغ خمسة عشر سنة بالكاد "خويا بغينا نخويو هاد البلاد حيت ماعطاتنا والو". انتبه الصحافي الذي يحاوره إلى الساعة، وجدها الثالثة بعد الزوال . سأله "ماكتقراش". أجابه "كنقرا ولكن سالت".
هذا "السالت" الذي لم يجد أسرة تسأل عنه وتتابع مساره الدراسي والذي يعتقد في هاته السن المبكرة أن الوطن لم يعطه شيئا مجرد نموذج لعدد كبير من "السالتين" الذين ننساهم أو نمثل دور الناسين لهم إلى أن نكتشف سحناتهم وقد عبث بها العابثون في فيديوهات الحريك المتتالية هاته.
لننتبه: هؤلاء أبناؤنا وإخوتنا الصغار، وهم يعيشون معنا ويرددون يوميا كلمات تقول عديد الأشياء. علينا فقط أن نتقن الاستماع إليهم، وأن نحسن مرافقتهم، وأن نريهم الطريق، لا أن نتركهم في تيههم، وبعد أن يزداد هذا التيه تيها نستغرب ونقول "والله مايسحاب لينا".
هاته الاستقالة الجماعية من أدوارنا لم تعد صالحة على الإطلاق أيها السادة...
بقلم: المختار لغزيوي