استنكف يستنكف استنكافا فهو مستنكف، أي أنه ممتنع مستكبر ومتكبر عن شيء ما، وسبب هذا المدخل اللغوي الغريب بداية الأسبوع هو أن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان - حفظها الله ورعاها - تطالب الدولة المغربية باحترام حق الاستنكاف الضميري تجاه موضوع التجنيد الإجباري، وتعتبر التجنيد (وهنا لابد أن تتمسكوا بالمقابض والقضبان لأن الفرامل قوية ولأن سائق الحافلة غير مسؤول عن سقوطكم) «خدمة عقابية» ليس إلا..!!!
عندما تقرأ كلمة الاستنكاف هاته لا تستطيع أن تمنع نفسك من الابتسام، سخرية أولا، ثم حزنا في التتمة وبقية الأشياء، لأنك تدرك أن للحمق حدودا في كل أنحاء العالم إلا في وطنك، ولدى أهلك وعشيرتك، وتفهم أنه من المكن للأشياء في مزايداته الفارغة أن تمتد وتمتد إلى أن تصل موضوع الاستنكاف هذا..
ومع ذلك دعونا نترك موضوع الابتسام هذا جانبا، ولنركز على الكلمة ومدلولها ولنحاول شرحها لأنفسنا أولا ثم لقارئنا الكريم ثانيا، وللجمعية التي استعملتها في البيان ثالثا.
ونقول مثلما كان يقول «مول الحلقة»، أيام لم يكن هناك فيسبوك في الموضوع، وكان المغربي يمضي أوقات تسليته في ساحاته القديمة، متحلقا حول الحكواتية وراقصي القرود والثعابين «نبدا باسم الرحمان ونصلي على النبي العدنان… استنكف يستنكف استنكافا». يقول التعريف المعجمي ياسادة:
اِستَنكَفَ: (فعل)
استنكفَ / استنكفَ عن / استنكفَ من يستنكف، استنكافًا، فهو مُستنكِف، والمفعول مُستنكَف
اسْتَنْكَفَ من الشيء،وعنه: أنِفَ وامتنع،
استنكف عن العمل: امتنَع مستكبراً (وأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ) (لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أنْ يَكُونَ عَبْدًا للهِ).
ثم نترك الشرح اللغوي بعد أن عرفنا الكلمة ومعانيها واستعمالها في صحيح القول المنزل من السماء، ونذهب بحثا عما يزعج في حكاية التجنيد الإجباري هاته والاستنكاف، ونكتشف أن التجنيد أمر معارض فعلا للاستنكاف لأغراض عدة هذا تبيانها:
أولا: الاستنكاف عن مد اليد
التجنيد الإجباري يعلمك الاعتماد على نفسك ويعلمك الاستنكاف عن مد اليد للآخر. تصبح إنسانا مستقلا بكامل معنى الاستقلالية، لا تنتظر صدقة من قريب أو من غريب. أو لكي نستعمل الكلمة استعمالها الذي استعمله بها البيان تستنكف أن تأخذ مال الأجنبي، وتستنكف أن تكون عالة عليه بمبررات الأنشطة والندوات والأبحاث، وفي الوقت ذاته لا تستنكف عن مد اليد إلى وطنك بالمعنيين المجازي والحقيقي، فتمد يدك إلى هذا الوطن حين يحتاجك، وتلبي نداءه، وفي الوقت ذاته عندما تحتاج شيئا ما من حاجيات الحياة تمد يدك إلى وطنك لكي تأخذه منه، ولا تمد يدك إلى الأجنبي أبدا.
ثانيا: الاستنكاف عن الخوف
التجنيد الإجباري يعلمك أن تستنكف عن تصديق الكذب والكذابين، لأنك حين لحظات التجنيد ستعرف الصادقين الحقيقيين الذين لا يهابون المعارك، وستعرف مقابلهم الجبناء الذين يرددون كلاما كبيرا في المقالات والندوات والمظاهرات، التي لا خوف عليهم فيها ولا هم يحزنون، لكنهم حين سماع دوي الرعد يغلقون آذانهم خشية الصواعق، وطبعا هم حين سماع لعلعة البارود الفعلي يفعلونها مثلما جاءت ولا يفكرون، ولا حاجة للتذكير بأن كل حفاظات «دلع» الموجودة على سطح الأرض لا تكفي لجمع ما تخلفه هاته اللعلعة عليهم.
ثالثا: الاستنكاف عن المذلة
التجنيد الإجباري - عزيزي المستنكف، عزيزتي المستنكفة - يعلمك الاستنكاف عن الوقوف اليوم بطوله في بوابة الحي ممسكا الجدار وحاميا إياه من السقوط، وفي الوقت ذاته محدقا في كل الأجساد التي تمر قربك، ومدققا في التفاصيل التي لا تعني لك شيئا، رافضا الاشتغال في مهن تبدو لك صغيرة في وطنك، وحالما بوهم العبور إلى أوروبا حيث ستلتقي بكل الشقراوات الهائجات اللائي ينتظرن إطلالتك البهية عليهن لإطفاء عطشهن. تعرف بعد المرور من هناك الفرق بين ما يتم بيعه لك من وهم عبر الأنترنيت، وبين الحقيقة، وتعرف أن الخير الفعلي الذي قد تقدمه لنفسك ولبلدك هو أن تتقن شغلا ما، وأن تشتغله فعلا، وأن تعيش به، وأن تكف عن الأوهام.
رابعا: الاستنكاف عن الشعارات
التجنيد الإجباري يعلمك، أيضا، الاستنكاف عن ترديد الشعارات الغبية، خصوصا حين لا تكون مدركا لمعنى هاته الشعارات. فهاته المرحلة الخاصة جدا من العمر، سواء دامت عاما واحدا أو دامت سنتين مثلما هو جار به العمل في كل أنحاء المعمور المتحضر، تعلمك تصديق الواقع لا الشعار، والتفاعل مع المعيش لا مع المقال، وتمنحك قدرة التمييز بين المفيد فعلا في الحياة وبين النافل فيها الإضافي، أو الزائد على سطح الأرض.
خامسا: الاستنكاف عن الغموض
والتجنيد الإجباري، أيضا، في إطار الاستنكاف «وداكشي»، يعلمك أن تستنكف عن وضع نفسك مواضع الشفقة والسخرية والرثاء بأن تصبح إذا كنت ذكرا رجلا، وبأن تصبحي إذا كنت أنثى امرأة، قادرين معا على ملء مكانيكما في الحياة، ومستعدين لتجريب كل مشاقها والتغلب عليها ليس بالأحلام الفارغة وبالعويل الكاذب في الأنترنيت، ولكن بالبحث على أرض الواقع عن الحلول التي تتوافق مع مقدراتك ومواهبك، والتي تقول من خلالها للناس في سوق الشغل وفي غير سوق الشغل أي في بقية مناحي الحياة «أنا أستطيع فعلا كذا أفضل من الآخرين، إذا كنتم تريدون الاستفادة من موهبتي هاته».
بمعنى آخر تصبح واضحا تعلم ما لك وما عليك. تخرج من طور الغموض القاتل الذي ضرب العديدين، فجعلهم لا يعرفون جنسهم الحقيقي فعلا، وهل هم مجرد ذكور أم رجال، وهل هم مجرد إناث أم نساء، وهل هم حقوقيون أم سياسيون، وهل هم دارون بما يكتبونه من بيانات أم هم فقط يجدفون ويهرطقون؟
في نهاية المطاف يبدو أن الجمعية قدمت لنا هاته الخدمة مشكورة دون أن تريد ذلك: علمت الكثيرين كلمة عربية قديمة من عربيتنا الفصحى الجميلة، وهذه لوحدها في أيام «البغرير والبريوات» هاته مسألة لا تقدر بثمن ولا تكيل بـ«الباذنجان».
واصلوا رعاكم الله، فأنتم تهدون الناس - رغم ضيق العيش - أسبابا وجيهة بين الفينة والأخرى للابتسام…
ملحوظة على الملحوظة (لا علاقة لها بماسبق دائما)
قال عبد الإله بن كيران، رئيس الحكومة السابق، إن موضوع الحريك «كان قليلا في السنوات الماضية إن لم نقل منعدما». بمعنى أن الحريك بدأ منذ تعيين السيد العثماني رئيسا للحكومة فقط.
واضح أن ابن كيران لم يكن معنا على أرض الواقع، أو أنه لم يكتشف الحريك إلا عبر الفيسبوك، أو أنه يزايد على موضوع مؤلم فعلا وجرح غائر من العيب أن يزايد فيه الإنسان، والله أعلم من قبل ومن بعد بطبيعة الحال.
بقلم: المختار لغزيوي