يعيش المغرب التربوي، كما الاجتماعي، في هذه الأيام، على السجال القديم /الجديد حول توظيف العامية المغربية في مقررات التدريس، بعد "التوظيف" المثير لكلمات دارجة داخل كتاب "مرشدي في اللغة العربية" للسنة الثانية من التعليم الابتدائي؛ بين من يهاجم هذا التمرير المصادق عليه باعتباره محاولة للتطبيع مع "فكر" مقترح خارجي يبغي ضرب اللغة العربية، وتحييدها من التداول المدرسي، عبر تمكين عامية غير منضبطة، وفاقدة للأساس الرسمي المؤسس من التوظيف اللغوي المدرسي. وهو ما لمس منه جل المتتبعين نوعا من التسلل التدريجي إلى قلب المنظومة التربوية لتمرير توصيات "حزب فرنسا" أثناء الإعداد لصياغة متن الرؤية الاستراتيجية 15/30، وما أثير أنذاك من نقاش ولغط حول لغات التدريس، والدعوة الجسورة لـ"مول الدارجة" إلى اعتماد العامية المغربية في السنوات الأولى للتعليم المدرسي، والمنافحة دون ذلك؛ دفاعا واحتجاجا.
ومن يبرر هذا التوظيف لكلمات من العامية المغربية داخل المقرر المدرسي للمستوى الدراسي إياه باعتباره تفعيلا لمضامين الرؤية الاستراتيجية 15/30، خصوصا مضامين الرافعة السابعة عشر التي تنص:" على أن المدرسة يجب أن تصبح حاملة للثقافة وناقلة لها في نفس الوقت، وأن تضطلع بدورها في النقل الثقافي عبر: "المدرس، والبرامج الدراسية، والتكوينات والكتب المدرسية،..." والمادة 85ِ منها التي تنص على :" "...إعطاء الأولوية للدور الوظيفي للغات المعتمدة في المدرسة في: ترسيخ الهوية، والانفتاح الكوني، واكتساب المعارف والكفايات والثقافة، والارتقاء بالبحث، وتحقيق الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقيمي...". بالإضافة إلى المنطلقات البيداغوجية العامة ذات الصلة بالسنة الثانية من التعليم الابتدائي.. (من البلاغ التوضيحي للوزارة)..
ولئن كان عاديا وطبيعيا أن ينضح على السطح، من جديد، هكذا سجال تربوي لم يخل من مسوح سياسية وأيديولوجية، مادام النقاش ظل عالقا ولم يحسم في بداياته الأولى أثناء الصياغة النهائية لمضامين الرؤية الاستراتيجية؛ إلا أن الحقيقة التي لا يمكن أن نقفز عليها، والتي لا أظن أن الوزارة، نفسها، صادرةَ البلاغ إياه، ستنفيها، هي أن ثمة استهدافا مقصودا ومبيتا تتعرض له اللغة الرسمية للبلاد، وهو الأمر الذي لا يستطيع متتبع نبيه أن ينكره، خلا من يشتغلون عليه، ويؤسسون له في الخفاء. كما لا يوجد متتبع نزيه سينفي وجود جهات تستهدف هذه اللغة، وتسعى لمحوها من التداول المدرسي عبر بديل "إحلال العامية"، ليس حبا في العامية، ولكن رغبة في توجيه بوصلة الغرف الثقافي للمغاربة إلى حضن اللغة الفرنسية أداة للانفتاح، وتذويبهم فيها، مع الانكفاء إلى حضن الثقافة المغربية في حدودها الجغرافية، لقطع صلتهم بالحضن العربي والإسلامي الأوسع.
فورود بضع كلمات عامية في مقرر دراسي، قد يشكل المتكأ المبرر لتوظيف هذه العامية، مستقبلا، في مجال أو مجالات أوسع، وهو مَكْمَن تخوف أنصار اللغة الرسمية، الذين جربوا مع هذه الحكومة وسابقاتها أسلوبها الإنجليزي slow but sure في تنزيل المرفوضات الشعبية، والتي لم يكن آخرها التدريس بالتعاقد الذي شكل أحد توصيات تقرير البنك الدولي عام 1996 قبل أن يتبنى مضامين تنزيله واضعو البرنامج الاستعجالي، وتتصدى له النقابات، يوم كانت النقابات نقابات، دون أن تتمكن من إقناع مهندسي إطاره القانوني والإداري من التراجع عنه، رغم طأطأتهم الرأس لعاصفة الرفض النقابي آنذاك؛ ليتم تنزيله أخيرا بعد سلسلة من الانتكاسات الاجتماعية التي أشرفت عليها الحكومة السابقة !.
فليس ما نضح عن حراك "مول الدارجة" داخل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي إبان الصياغة النهائية لمضامين الرؤية الاستراتيجية 30/15، وقلبه الطاولة على من فيه، من أجل سواد عيون "دارجته العجيبة"، إلا الشجرة التي تخفي الغابة. فأجندة الرجل أكبر من مجرد غيرة على "لغة أم" لا تعاني أي اضطهاد، ولا خوف عليها ولا هي تحزن، بل تمثل تحصيل حاصل في المدرسة العمومية منذ "الاستقلال"، ولا تستدعي تأصيلا، ولا تأسيسا. فهي سليقة الطفل المغربي في البيت، والشارع، والمدرسة، بل داخل الفصل الدراسي وفي علاقته التربوية مع الأستاذ حتى... بل ثمة أجندة أكبر من عيوش، ومن مناصري عيوش، لا يمثل فيها عيوش إلا المنفذ المطيع. وهي الأجندة التي دفعت بتمثيلية هذا التيار داخل المجلس، لكسب مشروعية التمثيلية، من أجل ربح بند مؤسس داخل متن "الرؤية" يركب عليه التيار – بعد ذلك – للنضال من أجل ترسيم توجهاته المعادية للغة العربية، لتضييق الهوة على هوية الأمة، وثقافتها، وإفقادها بوصلة التحكم في مسارها الإنمائي المستقل عن "حزب فرنسا" وتياره الفرنكفوني، وامتدادها العربي والإسلامي، وتحويلها إلى تابع بدون هوية، ولا أصل.
ولقد سبق لنا أن عبرنا، في مكان آخر، عن تخوفنا من هذه الفسيفسائية النشاز المكونة للمجلس، والذي استدعتها الإرضاءات السياسية والنقابية واللغوية، بأنها لن تقدم شيئا للإصلاح، بل ستحول الإصلاح خلقا مشوها، لا رابط بين مكوناته ولا علاقة. حيث اعتبرنا أن المزايدات السياسية التي رافقت مسار الإصلاح و"إصلاح الإصلاح" الذي عرفه المغرب، بين مختلف الهيئات والحساسيات السياسية التي تعاقبت على حكم البلاد، والتي كانت تراهن على توجيه عقول المغاربة نحو قناعات سياسية وإيديولوجية معينة، تُمَكِّن لها من جمهور يواصل رسالتها على درب التمكين لها في حكم البلاد والعباد، من خلال تثبيته لقناعات محددة، أو الترويج لخطإ وتهافت قناعات ومعتقدات الخصم السياسي والأيديولوجي (المعارضة)، والتي كرست لمسار إصلاحي عرف ابتذالا أخلاقيا غير مسبوقٍ، مَكَّن لجيل من العاقِّين لمقومات هويتهم العربية الأمازيغية الإفريقية الإسلامية، المنسحبين من قضايا الأمة المغربية، المنشغلين عنها بِ"سَقَطِ" القضايا الثقافية والفنية والإعلامية والتربوية المغتربة، من رقاب المواطنين المغاربة؛ يخططون لهم في التعليم ما ينسف به آخرهم أولهم، ويلعن بعضهم بعضا،... والتي نقلت قطاع التربية والتكوين من المضمار الاجتماعي الصرف إلى حلبة الصراع السياسي المُدَنَّس؛ قد ساهمت، أيضا، بقدر معتبر، في تكريس الأزمة، وتعميق الوضع المهترئ لنتائج مدرسة عمومية يُفترض أن تسهم في بناء شخصية المواطن المغربي المتميزة بقدرتها على الاختيار الحر، والتعبير المسؤول عن القناعات السياسية والأيديولوجية، والوعي الناضج بثنائية الحق والواجب، بعيدا عن الإملاء، وعن توجيهات الزعماء والقادة... !!.
وهي ذات القناعة التي ألمح إليها "التقرير الوطني للقاءات التشاورية حول المدرسة المغربية"، في سياق لغوي صرف، حينما نبه إلى " الخطورة الإستراتيجية لعدم الحسم في الاختيارات اللغوية وغياب سياسة لغوية واضحة في التدريس وتقاطع المواقف اللغوية بحجة الإرضاءات السياسية والفئوية" (ص: 41).
فمحاولات "مول الدارجة"، وسواه، الإنابة عن لوبي الاستلاب الثقافي، والاستحمار اللغوي، من التيار الفرنكفوني، ليست سوى جعجعات لإثارة الفتنة، واستغلال تدمر شريحة واسعة من المغاربة لتبني هذا النشاز اللغوي، ردا للفعل، وعقابا لصناع القرار على اختيارات مجتمعية، أصبحت تقلق التيار الفرنسي على اختياراته التي أسس لها، منذ عقود، على أرض المغرب. فكان القرار هو إعادة المغاربة إلى صِباهم اللغوي، وإشغالهم بتفاهة المتطفلين على هويتهم وثقافتهم، وإثارة جوقة في الإعلام لتمرير الفتنة، للضغط من أجل إعادة توزيع كعكة المشروع التربوي/المجتمعي، بين القبائل السياسية والأيديولوجية، انطلاقا من مداخل شتى، وتأسيسات لا يجمع بينها أي منطق سليم. وليس مدخل "لغة التدريس" و"تدريس اللغات" إلا إحدى المداخل الواهية التي ولجها حفدة موليير، للإثارة والإرباك، ليس غير... !!
ولقد كانت هذه قناعتنا وقناعة العديد من المتتبعين الذين اعتقدوا في نجاعة الهبة الرافضة لتمرير هذا المرفوض اللغوي، قبل أن ينضح على السطح، مستهل هذا الموسم الدراسي، هذا السجال من جديد، وترتاب الأنفس الغيورة على لغة الضاد من تلكؤ جديد، قد يخدم أجندة دعاة التلهيج والفرنسة، خصوصا بعد أن تحققت أمنيتهم في تمرير "شيء" من مشروعهم التلهيجي في صلب المادة المدرسة. تماما كما تحققت أمنيتهم، سابقا، في عرقلة كل المبادرات الرسمية وغير الرسمية التي تسعى لخدمة اللغة العربية، والنهوض بها، عبر المراكز، والمراصد، والأكاديميات. ولعل أكاديمية محمد السادس للغة العربية التي لم تر النور بعد رغم مرور عدة سنوات على وضع قانونها المنظم، لخير دليل على وجود لوبي فرنكفوني متجذر يستعمل "فيتو" خاص ضد كل مبادرة تسعى لخدمة اللغة العربية، أو تؤسس لتوظيفها !.
فهل سيكون هذا "التمرير" المثير مجرد حاجة بيداغوجية صرفة كما جاء في بلاغ الوزارة إياه؟. أم هي بداية فعلية لتنزيل مشروع التلهيج الفرنكفوني من خلال التطبيع الأولي مع عبارات مؤسِّسة لتصريف رغبات قوم يزحفون، عبر جرعات (goutte à goutte)، نحو قلب الهوية اللغوية المغربية الرسمية لإتيانها من القواعد؟..
أسئلة نترك الجواب عنها لزمن الإصلاح التربوي وللقرارات الرسمية حول التعديلات التي تعرفها المقررات الدراسية، كما لمُخرَجات النقاش الرسمي والعمومي حول هذا الملف..
دمتم على وطن... !!
صالح أيت خزانة