هل التدين هو شارب محفوف بعناية ولحية معفاة مشعثة أو مشذبة أم هو قميص وسروال نصف ساق؟ هل هو كحل يوم الجمعة وسواك خلال كل صلاة؟ هل هو خمار أسود قاتم يغطي كل شيء مع قفازين خشنين ونظارات سوداء تخفي العينين؟ أم هو التسابق على الصف الأول حتى وإن اقتضى الأمر تخطي الرقاب المنهي عليه أصلا؟ أم هو المنكب على المنكب وسد الفرج ورصوا الصفوف وأتموها يرحمكم الله؟ وماذا بعد الفراغ من الصلاة والخروج من المسجد؟ ألا يؤكد المقاصديون أن كل الشعائر التعبدية ليست مقصودة لذاتها، بقدر ما هي مرتبطة بسلوك الفرد والمجتمع، وإلا فهل الإله عز وجل في حاجة إلى حركات المصلين وجوع الصائمين وأشكال المسلمين البرانية؟
فأين هذا الذي نراه داخل المساجد من نظام وخفض للصوت واحترام متبادل وتجنب الجدال والتوسعة في المجلس ومساعدة الأصحاء لذوي الاحتياجات الخاصة؟ أين كل هذه المعاني والآداب خارج المسجد حيث الغلبة للأقوى؟ لماذا بمجرد مغادرة باب المساجد تتغير الأقنعة؟ أليس هذا هو مرض ازدواجية الشخصية الذي تعاني منه قرابة نصف المجتمع حسب بعض الدراسات؟ أم هل التدين هو عدد ختمات القرآن الكريم في الشهر؟ أم هو ركعات قيام الليل حتى تتفطر الأقدام؟ أم هو الالتزام بصيام الاثنين والخميس والأيام البيض ورجب وشعبان ويوم عرفة؟ أم هو بإحياء الليالي بالأمداح والصلاة على خير البرية على نغمات ما لذ وطاب من أطعمة يتوجونها بحصة من "الحضرة المحمدية"، يستحيل على أي كان تبيان ما يرددونه جماعة لما يبلغون الذروة؟
أم التدين هو حفظ جملة من الأحاديث النبوية عن ظهر قلب متنا وسندا، ثم إطلاق العنان للتكفير، والتفسيق، والتفجير، والتبديع بغير دراية لا بقواعد اللغة العربية، ولا ببلاغتها، ولا بصرفها ونحوها، ولا بعلم الحديث ولا بسياقات قولها، ولا حتى القدرة على التمييز بين ما يدخل في باب العبادة وما كان من باب العادة، فكما كان يدأب عليها أبو جهل وأمية بن خلف وغيرهما من صناديد قريش كان يفعله الصديق والفاروق وقبلهما الرسول عليه السلام، تتعلق ببعض الملبوسات والمأكولات والمشروبات والمركوبات هي من صميم زمانها ولا علاقة لها البتة بجوهر الدين لا من قريب ولا من بعيد. فهي مرتبطة بزمانها ولا يمكن بأية حال إسقاطها على بقية العصور.
وهل التدين هو بعدد الحَجّات وعدد العُمْرات والتباهي بها؟ أم هو بكثرة المساجد ودور العبادة في كل درب وفي كل زقاق حتى تكاد الصوامع تتناطح فيما بينها بميزانيات هائلة تصرف في تشكيلها وتنميقها وتزويقها؟ فلم لا نرى بأبواب المساجد أو في المقاهي والأماكن العامة من يستجدي الناس من أجل بناء دور الطالبات وبناء المساكن للمعوزين الذين ما يزال بعضهم يسكن في الكهوف، أو التكفل بضحايا الاغتصاب أو من أجل توفير مراكز لتصفية الدم، أو تجهيز المستشفيات والمستوصفات وأقسام الولادة، وتسليمها للوزارة المعنية كما يفعلون بخصوص المساجد مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، أو من أجل التكفل بالنوابغ من أبناء المعوزين لإتمام دراساتهم داخل الوطن ولم لا خارجه؟
فبدل الإسراف في بناء المساجد، لم لا الاكتفاء بالكبيرة منها والجامعة وتوجيه المحسنين لبناء المدارس وتجهيزها بالمختبرات، وتوفير المعدات العلمية لضمان تعليم عصري مواكب للتطور العلمي، ولم لا المراسم، والملاعب الرياضية؟
فهل تدين الأشكال والمظاهر هذا هو الذي سيؤهل المسلمين للخيرية المفقودة، أم التدين المقصود أعمق وأوثق من كل ما سبق؟ هل هذا هو التدين الذي مهد للإسلام أن ينتشر في الأصقاع ويبلغ الآفاق؟ أليس أول ما أنزل من القرآن كلمة اقرأ، فأين نحن من القراءة؟ وأين نحن من العلم والتعلم والتعليم؟ ألم يكن الأولى الاكتفاء بِحَجَّةٍ واحدة والاتجاه لتمويل المشاريع المجتمعية البناءة؟
ولم لا يتولى خطباء الجُمَع وعلماء الأمة ووعاظها التركيز على تعديل بوصلة التدين وتصحيح الفهومات للاهتمام بالأهم فالأهم مما يدخل في صميم حاجيات الناس الأساسية؟ الأمة الإسلامية اليوم في ذيل القافلة تعليما واقتصادا وصحة وصناعة وتجارة وتسلحا، وفي المقابل تحتل المقدمة والصدارة تلوثا وفي حوادث السير والبطالة والخروقات وغيرها من المطبات.
أليس جوهر الدين وعموده الفقري هو التركيز على هذه المطبات ومعالجتها، بدل حصر دائرة التدين في المظاهر البرانية التي إن لم تؤخر فإنها لن تقدم؟
وما يحز في النفس أكثر لما تجد شبابا في مقتبل العمر، بدل صرف الجهد في فريضة طلب العلم ولو كان في الصين أو اليابان، في التخصصات الدقيقة من هندسة وطب وغيرها، تجدهم غارقين في سنن الصلاة أو الوضوء ومندوباتها ومكروهاتها، وحساب مقاس القميص بالملمتر وإطلاق السوالف حتى تختلط باللحى بدعوى اتباع السنة النبوية، والتباري في حفظ أقوال السلف والترويج المبالغ فيه لكتبهم وآرائهم وكأن عجلة التاريخ توقفت عندهم، علما أنهم اجتهدوا لعصورهم، ولم يَدَّعِ أحدٌ منهم أنه يُنَظِّر لِمَا بعده إلى يوم الدين. فبدل التجديد تجدهم يغرقون في التقليد، وبدل الإبداع يغرقون في الاتباع. فما أحوج شبابنا لتحديد الحاجيات، وترتيب الأولويات، ومن تم التركيز على الأصول بدل الفروع، والتمييز بين ما ينبغي البدء به وما ينبغي تأجيله والانتهاء به.
بوسلهام عميمر