العشاء ما قبل الأخير!
لم يكن المشكل إطلاقا في وضع قنينات الجعة على الطاولة، أو في تدخين تلك اللفافات الساحرة من التبغ التي تذهب بذهن البعض، وتفتح للبعض الثاني في ذهنه آلاف العوالم. ولم يكن المشكل في اللغة المتداولة للنقاش، والتي اختارت الدارجة من أجل الاقتراب من الناس. ولم يكن المشكل في وضع الطعام على الطاولة أثناء النقاش والشروع في الأكل أثناء الحديث رغم أن المسألة غير مؤدبة كثيرا.
لا، بالعكس، هذا التهييء الشكلي للنقاش مبتكر وجديد على العين المغربية، وإن كان قديما للغاية بالنسبة لمن يشاهدون البرامج الفرنسية، ويعرفون أن تييري آرديسون من بين آخرين، كان ينظم حلقات حوارية حول طاولة العشاء ومشروباته منذ سنوات عديدة، بل منذ عقود، وأن البرنامج - مع احترام الاختلاف التام للقامات التي كانت تحضره عن ضيوف اليوم - كان يحمل عنوان «93 faubourg saint honore».
المشكل كان في مكان آخر تماما. المشكل يوجد في انتفاخ الرأس، الذي يجعل البعض يتصور أن الكون يدور حوله، وأن رأيه في السياسة المغربية هو الرأي الوحيد الحصيف، وأن الآخرين، كل الآخرين، إما «بياعة»، أو «عياشة»، أو «ممخزنون»، أو مشتغلون تحت الأمر والطلب.
هو وحده يملك الحقيقة المطلقة، وهو وحده يفهم شعارات الشارع، وهو وحده يتقن الحديث للشباب، وهو وحده يستطيع تحليل خطاب ملكي دون أن يشاهده أو يستمع إليه، وهو وحده لديه حل مشاكل المغرب كلها، وهو وحده يستطيع تشغيل كل العاطلين وإن لم يستطع تشغيل نفسه، وآخرون هم الذين شغلوه بتلك الدولارات التي تقارب الستة آلاف التي تأتيه كل شهر، وهو وحده يستطيع أن يكون صحافيا في وقت سابق، لكن حقوقيا في الوقت الحالي، ومع ذلك معارضا في الوقت الثالث، وهو وحده الذي يستطيع ألا يضع يده في الوطن في أي شيء، لكن يحق له انتقاد كل شيء من أبسط خطوة إلى أكبرها وأشدها وقعا على الناس.
هذا الغرور القاتل لم يصب شخصا واحدا في المشهد العام، ولا شخصين ولا ثلاثة. هو داء فتاك مس هاته النخبة الذاهبة لحال سبيلها، التي تأرجحت في مقامها بين ما كانت تراه سابقا، وبين ما أصبحت تشاهده حاليا، دون أن تستطيع هي ملء الفراغ الموجود بين المرحلتين، والتي كانت هي عنوانه الأكبر والأبرز والرئيس.
يوما ما قالها رجل حكيم لمن يريدون الإنصات إليه «المغرب خرج من عهد زعاماته التاريخية التي كانت تملأ الدنيا وتشغل الناس بما قدمته في تاريخها الأول إلى عهد «أشياء» (مجرد أشياء) تتحرك في المجال، لا هي قادرة أن تنسي الناس الكبار الذين كانوا، ولا هي قادرة على الإتيان ببديل. يبقى لها الصراخ بمختلف الأشكال المضحكة لكي تملأ المجال، ولكي تقنع الناس أو تذكرهم بوجودها المرة بعد الأخرى».
صدق الرجل فعلا، وكذبت عديد التفاهات. إذ عندما تكون عاجزا عن الوجود الفعلي على أرض الواقع، يبقى لك الوجود الافتراضي، تختلقه، وتخلق لك مكانا فيه، وتجد من يمنحك قليل المال لأجل ربط الأزرار الكهربائية ببعضها، ولأجل وصل خيط الكهرباء، ويبقى لك الكلام، والكلام والكلام، ولا شيء غير الكلام.
تلك هي الحكاية قبل العشاء، وبعده وأثناء كل الوجبات، سواء سريعة الهضم الخفيفة على المعدة، أو تلك المتعسرة الأكل والازدراد وصعبة بل مستحيلة الوضع في النهاية المطاف، أعز الله قدر الجميع...
بقلم: المختار لغزيوي