كان الوعي الجماعي، والحوار الاجتماعي، اللّذان يحدِّدان إدراكَ الفرد للعالم من حوله بدرجة كبيرة، ينحدران إلى الأسفل، بسبب الخطابات الدّعائية الكاذبة التي كانت تنهجها أحزابٌ ضعيفة في ألمانيا طيلة العشرينيات، وقد فاق عددُها (33) حزبًا، وكان الشعب الألماني يعاني الفقر، والجوعَ، والبطالةَ، والمرض؛ فكان يصوّت لصالح هذه الأحزاب الكذّابة التي كانت تشكّل الحكومات من حشْد من الوزراء الضّعاف، حتى ضاق الشعب ذرعًا بها، وكره الديموقراطية، ونبذ حكومة [ڤَايْمار]، فبرز على الساحة حزبٌ جديد بخطاب جديد، وبرامجَ جديدة، تستجيب لانتظارات الشعب، وقد ركّز هذا الحزبُ الجديد على محو (33) حزبًا من الساحة السياسية كشرط لنجاج برنامجه التنموي، وحمّل هذه الأحزاب، كلّ الأزمات التي تعيشها البلادُ، فوافق عليها الشعبُ، بل إنّ أكاديميين، ومفكّرين، وعلماء من أمثال [رونْتجَن] (مُكْتَشف أشعّة إيكس)؛ و[رينهارت] (رائد المسرح الحديث)؛ و[هايدغير] (زعيم الفلسفة الوجودية) وافقوا، وزكّوا الحزبَ النازي الجديد، وأيّدوا تدمير هذه الأحزاب المترهّلة التي أورثتِ الشعبَ الألمانيَ الهمَّ والغم، وقبلتْ بعقوبات دولية مذلّة، وقام هؤلاء المفكّرون والعلماء بإصدار مانيفسْتُو بعنوان [مانيفستو إلى العالم المتحضِّر]؛ وخرج الحزبُ النازي إلى الوجود من رحم الفوضى التي طغتْ على العشرينيات بوصفه الجماعة الوحيدةَ القادرة على توطيد النظام، والاستقرار، وتوفير الشغل، والخبز، والعيش الكريم للشعب، مع ردّ الاعتبار للمتقاعدين من جنود، وعمّال، وموظّفين قُذِف بهم إلى الشارع، ليتعاطوا الكحول لنسيان ما ألمّ بهم باسم ديموقراطية اجتماعية وهمية، وهو ما عناه جلالةُ الملك في خطاب العرش بـ[بيْع الأوهام] وهو ينتقد (33) حزبًا ببلادنا..
لقد خُضتُ تجربةً حزبية لأربع سنوات في حياتي، من سنة (1980 إلى 1984)؛ وشهدتُ على العجائب والغرائب؛ ففي سنة (1980) ألقيتُ خطابًا مرتجلاً نال إعجابَ الحاضرين؛ وفي الليل، خلال الساعة العاشرة، زارني مسؤولٌ حزبي في داخلية (ثانوية مولاي يوسف) بالرباط، حتى لإنّي اليوم لا أتذكّر أين توجد، وكنتُ أنام فيها طيلة أيام (مؤتمر الشبيبة)، وطلب منّي الترشح، ولكنّ الوفدَ الممثّل لمدينتنا، كان قد تلقّى تعليمات من مفتّش الحزب في المدينة، بعدم التصويت عليّ إنْ أنا ترشّحتُ، وهكذا تم التصويت على تلميذ عمره (16) سنة، ونال [12] صوتًا ونلتُ أنا صوتي، فقط، يعني (أنا صوّتتُ على أنا)، واستشاط المسؤولُ غضبًا في اليوم التالي قائلاً: (إنّ هذه ليست ديموقراطية، وما هكذا سيتقدّم الحزب.).. وفي سنة (1981) رشّحني رجالُ التعليم رغمًا عنّي، فسحقتُ رئيسَ النقابة منذ (30) سنة، وأسقطتُه، ولم أَقُمْ بدعاية خلال الانتخابات، اللهمّ ما كان من كلمة قوية لا غير؛ فنلتُ (73) صوتًا، فيما الرئيس الشيخ نال (27) فقط؛ فقرّروا عدمَ السماح لي برئاسة النقابة؛ وبعد (24) ساعة، طلعتْ تشكيلةُ المكتب النقابي، في جريدتهم، فوجدتُ اسمي ضمْن المستشارين الستة.. وخلال الانتخابات الجماعية، كنتُ أقوم بالدعاية لمرشّح الحزب، فوجدتُه في الساعة الواحدة صباحًا في أحد دروب المدينة القديمة، وهو يقول للناس: [لا تصوِّتوا عليّ؛ بل صوّتوا لصالح فلان.] أي خصْمه؛ ولـمّا رآني شكَرني، وأثنى على مجهوداتي خلال الحملة الانتخابية، وفاز خصمُه فعلاً، وتظاهر مرشّحُنا بالحزن، وتحدّث عن الغشّ واستعمال المال الحرام في الحملة؛ وخلال اجتماع لمناقشة نتائج الانتخابات، أخذتُ الكلمةَ، ومن أبرز ما قلتُ فيها: [يا سادة، يجب تطهيرُ الحزب من الخونة؛ فالخونة يا سادة، يحملون بطاقة الحزب؛ وخونة الحزب هم خونة الوطن]؛ كان ذلك آخر حضور، وآخر كلمة، وآخر علاقة بالردة، أي الانتماء إلى أحزاب الردة، وأرجو الله أن يغفر لي، ومن ثمة عرفتُ الأحزاب، ومن ثمة كانت عداوتي لها إلى يومنا هذا..
وتشكّل البرلمانُ، فماذا رأيتُ تحت القبّة؟ رأيتُ مُجَلْبَبِين، ومُطَرْبشين، وأصحاب (الرّزة)، وأُمّيين، وجهلاء، وحشّاشين، ينطقون لفظة (الديموقراطية) بطريقة عصرية، فيقولون [الـمُوقْراطية]؛ وما زلتُ أذكر أحدَهم حين أخذ الكلمة يوم الأربعاء، ليتحدّث عن مشاكل منطقته، فأبرع في اللغة، وأجاد في البيان، حين قال بالحرف: [إنّ المشاكل عندنا (تتخلَّف)، يعني (تَخْتلِف).] فعَلاَ التصفيقُ الشديدُ، فالجاهل للجاهل مُصَفّق.. فعانتِ اللغةُ، واحتجّ المفعولُ المطلقُ، واستاءتْ (إنَّ) وأخواتُها، و(كان) وعمّاتُها، وجُلِدَتْ لغةُ الضاد من هجوم مضاد قاده الأمّيون، والجهلاء، والحشّاشون، فكتبتُ مقالاً ساخرًا في إحدى الجرائد في الصفحة الأولى بعنوان: [بكى سِبَوَيْه، كأنّه فقدَ أبَويْه] ثم تلا ذلكَ وصفُ جلالة الملك (الحسن الثّاني) طيّب الله ثراه للبرلمان بالسّيرك.. هذا ما أنتجتْه أحزابُ [الذّلقراطية].
صاحب المقال : فارس محمد