كلّ ليلة في النشرة الإخبارية، تتحفنا التلفزةُ الموقّرة بأخبار تسمّيها [الأخبار الثقافية]؛ فلا نرى من هذه (الثقافة) إلاّ الرقص، ورجالا بلباسهم التقليدي، وعمائمهم، يرقصون مع نساء بتلابيبهنّ، وتُعَنْوِنُ تلفزةُ التّضليل، المشهدَ بِـ[الموسم الثقافي لمدينة كذا]؛ وهكذا، صارت بلادُنا من أقصاها إلى أقصاها، بمثابة خشبة رقْصٍ كبيرة، ووَسَم [الطّبالةُ] والمضلّلُون كلّ ذلك بالثقافة، حتى أمْستِ الثقافة هي [کناوة، وهدّاوة، وعيساوة واحْمادْشة] وكافّة رموز التخلف، فتنتقي التلفزةُ جهلاءَ، ومغرّرًا بهم، ليعلّقوا على هذه المواسم، بأنها إحياءٌ للموروث الذي وجدوا عليه أجدادهم، وآباءَهم، وإنّهم على (هَدْيِهم) لَسائرون.. قال تعالى في كتابه العزيز منتقدًا مثل هؤلاء: [هذا ما وجدْنا عليه آباءَنا]؛ وسبحان لله، المغرب، بلد الحضارة، لا يوجد فيه إلاّ مثل هؤلاء الرّاقصين، حيث يرقِّص الرجلُ الكتِفيْن، فتُجيبه المرأةُ بترقيص الرّدْفيْن، أو [Les nichons]، مع احترامي للقرّاء الأفاضل.. فهل هذه المهرجانات هي الثقافة ببلادنا؟ لكنْ ما هي الثقافة؟
يقال في اللغة [ثقّفَ]؛ يعني [قوّمَ]؛ ويقال: ثقّفَ الرُّمحَ، يعني سَوّاه، وقوَّم اعوجاجَه.. ويقال: ثَقّفَ الغلامَ، بمعنى ربّاه، وهذّب سلوكَه.. ويقال: ثقّفَ السيفَ، يعني سدّد اعوجاجَه، وهكذا.. تطوّر مفهومُ الثقافة بتغيُّر العصور، وتطوُّر الحضارات، فصار للثقافة مَعانٍ أخرى في الفلسفة.. فيقال: ثُقِّفَ الرجلُ ثقافةً أي صار حاذقًا، وثَقَفْتُ الشيء، يعني حذقتُه؛ والرجل المثقّف، يعني: الحاذقُ الفهم؛ وغلامٌ ثُقِّفَ، أي ذو فطنة، وذكاء؛ والمراد أنه ثابت المعرفة بما يحتاج إليه.. والثقافة بالمعنى الخاص، هي تنمية بعض الملَكات العقلية، أو تسوية بعض الوظائف البدنية، ومنها تثقيف العقل، وتثقيف البدن، ومنها الثقافة الرياضية، والثقافة الأدبية، والثقافةُ الفلسفية..
وأمّا الثقافة بالمعنى العام، فهي ما يتّصف به الرجلُ الحاذق المتعلّم من ذوق، وحِسٍّ انتقادي، وحُكْم صحيح؛ أو هي التربية التي أدّت إلى إكسابه هذه الصفات.. قال [روستان]: [والعِلمُ شرطٌ ضروريٌ في الثقافة؛ ولكنّه ليس شرطًا كافيًا؛ إنما يُطلق لفظُ الثقافة على المزايا العقلية التي أكسبَنا إيّاها العِلمُ، حتى جعل أحكامَنا صادقةً.. ويُطلِق بعضُ الفلاسفة هذا اللفظ على مظاهر التقدّم العقلي وحده؛ فيما يرى آخرون عكسَ ذلك، فتقول بهذا المعنى: الثقافةُ اليونانية، والثقافة العربية، والثقافة المغربية، مثلا؛ وتقول: النشاطُ الثقافي؛ والعلاقاتُ الثقافية؛ والتخلّفُ الثقافي وهذا ما تروّج له التلفزة المضلّلة، وينظّمه مفسدو الأجيال، من رقصٍ، وهرجٍ، ومرجٍ، يسمّونه: مواسمَ ثقافية، ثم بئستِ الثقافة هي! إننا نعيش في هذا البلد [بؤْسَ الثقافة] ثم لا علاقة لذلك بالثقافة..
أمّا حديثهم عن الموروث؛ فليس كلّ موروث صائبًا، وصالحًا لهذه الأجيال.. فماذا يُستَفاد من هذا الموروث بالنسبة للوطن؟ فهذا الموروث يكرّس التخلّفَ، ويشلّ العقلَ؛ وبهذا الخصوص، وقف الفيلسوفُ المغربي الدكتور [عبد لله العروي] منه موقفَ الخَصم، حيث رفض هذا الموروث المتخلّف، ورفض كلَّ تَرِكَة الماضي التي لا تزال تتحكّم في سلوكنا وحياتنا...
، إلى درجة أنه نصح بالقذف به في البحر، وهو ما يشبه موقف [هيوم] الذي نصح بحرقه، والتخلص منه، بدل تكريسه، وخداع الناس بجدواه الوهمية.. ربّما كان المستعمر على (حقّ) عندما اعتبر لغتَنا لهجةً، ودينَنا خرافةً، وثقافتَنا فولكلورًا؛ فلغتنا لم تتطوّرْ؛ وديننا شُحِن بالروايات الكاذبة؛ وثقافتنا هي (كناوة، عيساوة، واحمادشة، وو) وهو ما يكرّسه التّافهون، والضّاحكون على الذقون ببلادنا؛ فصار الاستعمار وكأنّه كان على حقّ في ما وصفنا به.. لكنْ من هو المثقف؟ يقول [سارتر] في كتابه [دفاع عن المثقّفين] الصفحة (12): [إن صفة المثقّف، لا تُطلَق على علماء يعْملون في حقل انشطار الذّرة؛ فهم محْض علماء، لا أكثر ولا أقلّ؛ ولكنْ إذا انتابهم الذّعر لما تنطوي عليه هذه الأسلحةُ وتُصْنَع بفضل جهودهم، فاجتمعوا، ووقّعوا بيانا لتحذير الرأي العام، غَدوا من فوْرهم مثقّفين]، ويُستشفُّ من هذا، أن المثقّف، هو الملتزم بقضايا عصره، وهموم أمّته؛ فهو ضمير الوطن، وليس [لَكْناوي أو الهدّاوي، أو العيساوي أو].