عبد الإله بلقزيز:
تعاني الثقافة السياسية العربية السائدة خلطاً حاداً بين معنى الدولة ومعنى السلطة والنظام السياسي، نكتشف الالتباس بينهما في النصوص "الفكرية" للنخب الثقافية، من الاستخدامات غير الدقيقة نظرياً للمفهومين، ومن حَمْل معنى الواحد منهما على معنى الثاني مرادفة ومماهاة وكأنهما من المحتد عينه؛ لكنّا نكتشفه أكثر في الخطاب السياسي الحركي الدارج عند الكافة من حملته من القوى الأيديولوجية السياسية العربية القائمة: اليسارية، والقومية، والليبرالية، والإسلامية.
والخلط والالتباس إذ يردّان إلى ضعف شديد، ونقص فادح، في الثقافة الفلسفية والنظرية للنخب الفكرية العربية، يطلعنا أمرهما فيه التداول السياسي الحركي، والإعلامي، على فوضى مفردات لا تعكس غير حال من التضخم في اللغو الايديولوجي يمتنع معها وضوح.
ليست المشكلة معرفية فحسب، لكنها تستولد مشكلات سياسية في غاية الخطورة، وترتب على السياسة وعلى مجتمعاتنا أكلافاً وغرامات عالية، خاصة حينما تنفجر فيها أزمات سياسية من جنس هذه الأزمة التي انفجرت منذ مطلع العام 2011، في قسم كبير من البلدان العربية، فأثمرت ثورات وانتفاضات ونُذر حروب أهلية. فلقد كانت مشكلة السلطة والنظام السياسي في قلب هذه الأزمة، وفي أساس انفجارها لكنها، وبسبب الخلط الذي أشرنا إليه، سرعان ما انتهت إلى استيلاد أزمة سياسية أشد وطأة وخطورة، هي أزمة الدولة والكيان! وإذا كان انفجارها، على هذا النحو، من فِعل السياسة لا من فِعل الفكر، إلا أن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن الخلط بين السلطة والدولة في الوعي هو الذي ينتج ويقود إلى ذلك الخلط بينهما في السياسة والممارسة السياسية.
شهدنا، في السنوات الماضية، مثالات لذلك الخلط في السلوك السياسي لبعض المعارضات العربية تجاه الأنظمة القائمة في بلدانها، فإذ هي أخفقت في إنجاز التغيير السياسي بإمكاناتها الذاتية، من طريق ثورة شعبية أو ما شاكل، ولأنها لم تتبيّن على نحو من الوضوح الفارق بين النظام السياسي والدولة، ولم تُقِم بينهما فصلاً وتمييزاً، فقد استسهلت استقدام الأجنبي والتحالف معه لإسقاط النظام لمصلحة جمعت بينها والأجنبي للتخلص منه. لكن إسقاط النظام انتهى إلى إسقاط الدولة والكيان، وتفكيك الوطن، وتمزيق نسيجه الاجتماعي، والعودة بالشعب الواحد إلى تكويناته العصبوية: القبلية، والعشائرية، والأقوامية، والطائفية، والمذهبية، والمناطقية. والمثال العراقي أشدّ دلالة على ذلك الثمن الفادح الذي تدفعه مجتمعاتنا من الخلط بين السلطة والدولة فيها. وهو مثال لم يَبْق معزولاً وشاذاً في تاريخنا المعاصر، بل سرعان ما بُني على سابقته وتكرّر، والخشية اليوم من أن يتحول إلى خيار عند معارضات عربية أخرى على ما تُرهص بذلك مواقفها المعلنة.
الخلط هذا "بين النظام السياسي والدولة" هو عينه الذي يعيد، اليوم، إنتاج نفسه في الوعي والواقع بمناسبة ما جرى ويجري من تغييرات في بعض نظم الحكم العربية، وخاصة في تونس ومصر، حيث نجحت الثورة في إسقاط النظامين القائمين فيها. وقد ترجم هذا الخلط نفسه في موقف قوى الثورة من الدستور، وقد انتقل سريعاً إلى مطلب انتخاب مجلس تأسيسي يضع دستوراً جديداً، أعتقد أنه سيكون "دستور الثورة"، قبل أن تتبين النتائج غير المحمودة لهذا الخيار.
والغريب في الأمر أن القوى التي دفعت في اتجاه خيار المجلس التأسيسي لم تكن هي المستفيدة منه، حتى في حدود الاستفادة الرمزية، وإنما أفادت منه قوى أخرى كانت مطالبها الدستورية، بعد الثورة، شديدة التواضع، وكانت ترتضي مثل سائر القوى السياسية التقليدية صيغة التعديلات الدستورية من طريق لجنة متوافقاً عليها، وهو ما بدأ العمل به في حكومة محمد الغنوشي المؤقتة في تونس، حين اختيرت لجنة تعديل الدستور برئاسة حقوقي مرموق، وفي قرار "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" في مصر، حين شكلت لجنة لتعديل الدستور وترأسها مستشار قضائي نزيه ومحط إجماع.
اندفاع قوى الثورة من الشباب خاصة وراء مطلب انتخاب مجلس تأسيسي يعبّر عن موقف قصوويّ منفلت من كل عِقال سياسي واقعي، فإلى أن المتمسكين بهذا المطلب لم يكونوا يملكون مشروعاً سياسياً، ولا أداة حزبية ذات خبرة تعبوية وتنظيمية، ولا قاعدة اجتماعية متجانسة ومرتبطة بالأداة ومشروعها، وبالتالي لم يكن ميزان القوى يسعفهم بكسب معركة خيار المجلس التأسيسي، فإن انغماسهم في ترديد المطلب والإلحاح عليه، إنما ينطوي على وعي خاطئ بالفارق بين الدولة والنظام السياسي، فالبلدان اللذان شَهِدا ثورة ليسا على موعد مع بناء دولة وإقامة دستور لها، وإنما هما على موعد مع بناء نظام سياسي جديد داخل نطاق استمرارية الدولة والكيان. والدولة هذه لها تاريخ، وتراكم سياسي ودستوري، وهي لا تبدأ من الصفر "إلا في وعي عدميّ غير تراكميّ وغير تاريخيّ ومهجوس بفكرة القطيعة".
وكان يكفي أن تقع تعديلات جوهرية في الدستور تزيد الحريات والحقوق ضمانات، وتكرّس الفصل والتوازن بين السلطات، واستقلالية القضاء، وضمانات التداول الديمقراطي للسلطة، لانتاج دستور حديث وديمقراطي يؤسس لنظام سياسي عصري وشرعي. فالدستور السابق ليس دستور بن علي أو حسني مبارك، وإنما هو دستور الدولة في تونس ومصر، وإذا كان فيه حضور لِطَيْف بن علي ومبارك وهو موجود فيمكن نزعه وإلغاؤه لا إلغاء الدستور برمته، ورمي الطفل مع ملابسه الوسخة كما يقول المثل الفرنسي الشهير! لأن البديل اليوم هو دستور جديد تضعه أغلبية اقتراعية جديدة يعيد النظر في هوية الدولة، ويؤسس لنزاعات جديدة في المجتمع.