عرف القرن العشرين صراعا فكريا وايديولوجيا وسياسيا خيم على الخطاب الفكري للتنمية والمنظومة المفاهيمية المتعلقة بها لعقود. فبينما كانت الحرب العالمية الأولى صراعا داميا بين قوى امبريالية حول النفوذ الاستعماري وكانت الحرب العالمية الثانية صراعا بين قوى فاشية مدمرة وتحالف دولي من أجل صيانة منظومة قيمية مضادة لها، فإن الحرب الباردة، والتي كانت لها أبعاد فكرية وسياسية واقتصادية وعسكرية وجيواستراتيجية، اختزلت الصراع في ثنائية الرأسمالية في مواجهة الاشتراكية كمذهبين للتنمية، متناقضين ومتنافرين، رغم عدم إجماع الدارسين على أن الإيديولوجيا كانت هي المحرك الأساسي للحرب الباردة. (حول أسباب الحرب العالمية الأولى انظر جيمس جول وغوردن مارتيل، “أصول الحرب العالمية الأولى”، وحول الصراع ضد الفاشية انظر ب.م.ه. بيل، “أصول الحرب العالمية الثانية في أوربا”؛ أما عن دور الإيديولوجيا في الحرب الباردة انظر مقال نيجيل كود-دايفيس “إعادة النظر في دور الإيديولوجيا في السياسة الدولية إبان الحرب الباردة” وكتاب مارك كرايمر “الإيديولوجيا والحرب الباردة”).
الاستعمار في حد ذاته كان يجد شرعيته الإيديولوجية في “المهمة التحضيرية” التي كانت تقول بها فرنسا و”المهمة الثقيلة للرجل الأبيض” التي قال بها روديارد كيبلينغ دفاعا عن الاستعمار البريطاني في جنوب شرق آسيا (انظر دينو قسطنطيني “المهمة التحضيرية: دور التاريخ الكولونيالي في التأسيس للهوية السياسية الفرنسية” و أ.ج. ستوكويل “البشرية البنية: الكولونيالية والإثنية في المالاي اليريطاني”). هذا يعني أن منظري الاستعمار كانوا يرون فيه، على المستوى النظري على الأقل، وسيلة لـ “تحضير” الشعوب المتخلفة وتنميتها وهذه مهمة ثقيلة كما أكد على ذلك روديارد كيبلينغ في قصيدته الشهيرة “المهمة الثقيلة للرجل الأبيض”.
الفاشية، خصوصا في نسختها النازية، والتي اعتمدت تراتبية الأجناس وضرورة الوصول إلى نقاء الجنس في إطار مجتمع قومي اشتراكي منبثق من روح الشعب (Volksgemeinschaft)، اعتمدت مفهوما للمجتمع مطهرا من الأجناس التي تعكر صفاء المجتمع الآري المنشود كاليهود والغجر وغيرهم. لهذا كانت النازية كأعلى صور للفاشية التي نظر لها موسوليني وأصدقاؤه عنصرية واستبدادية وإباذية (ر. فايكارت “أخلاقيات هتلر: سعي النازية نحو التقدم التطوري”).
اندحار الفاشية ونهاية العهد الاستعماري أخرجت إلى الوجود ثنائية الاقتصاد المسير والاقتصاد الحر والتي أثرت بشكل أو بآخر في جميع نظريات وممارسات التنمية التي قمت بجردها في مناسبات سابقة. حتى الكينزية تمت بلورتها إبان النقاش الذي رافق النيوديل في الثلاثينات واستلهام الطرق الناجعة لتدخل الدولة من أجل إنقاذ الاقتصاد جراء الأزمة التي حطت بظلالها بعد انهيار بورصة نيويورك في 1929 وانهيار الاقتصاد العالمي الذي تبعها (آرثر ماير شليسينكر، “قيام النيوديل 1933-1935″).
النيوديل أسس لدولة الرفاة في أمريكا وهو نفس النموذج الذي تبنته دول أوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية وهو خليط من اقتصاد السوق وتدخل الدولة من أجل حماية الطبقات المهمشة وسن سياسية اجتماعية ترتكز على الاستثمار في التعليم والتغطية الصحية والرفع من دخل الطبقات المتوسطة والفقيرة