كنّا قد أعطينا أمثلةً من التاريخ، تبيّـنُ كيف ساءت دولٌ ثم كيف بادت نهائيا ومن هذه الدول، دولة (بني أمية) حيث تولّى المسؤوليةَ فيها مَن هم ليسوا أهلا لها، وإنما هم مجرّد باحثين عن المال بشتى الطرق، حتى لإنّ بعضَ الأسر، كانت تتوارث المناصب، للحفاظ على المكاسب.. عمدتْ دولة (بني أميّة) إلى اصطناع الرجال، وحشْد الأحزاب، واسترضائها، ومنها كانت تختار المسؤولين، والمشْرفين على تدبير الشؤون المالية والاقتصادية، وصارت دواليب الحكم تُدار من طرف التجار؛ وسياسة التجار حذّر منها النبيُ الكريم، وكذلك أعاظِمُ الفلاسفة، وقد أخذ بنصيحة رسول الله [عمر بن عبد العزيز]، فأفاض الله عز وجل الخير على يده، لورعِه وتقواه.. (دولة الأمويين) أغضّوا عن كثير من الأحكام، ومن الحِكَم، ووظّفوا، بل عمدوا إلى عُمّال أشدّاء، ووزراء منافقين، وولاة لا يبالون بالدّين، وبمكارم الأخلاق، حيث اعتبروا الأمّة مجرّد قطيع حيوانات؛ كل ذلك في سبيل أغراضهم الشخصية..
لم يكنِ الخليفة يبالي، وكأنّ الوجودَ يمتاز بالثبات، ولم يكنْ يحذُر مَكْرَ التاريخ، فكان يُؤْثِر رضا الخاصة على رضا العامة، فكان المسؤولون أحرصَ على أموالهم، وامتيازاتهم، أكثر من حِرصِهم على مصلحة الدولة، وأَمْنِها الاجتماعي والاقتصادي، مثْل [زياد بن أبيه؛ وعبيد الله بن زياد؛ والحجاج بن يوسف] الذي كان يقمع الرعيةَ إنْ هي اشكتْ أو استاءتْ من السياسة المتّبعة) وخالد القسْري (ابن أمٍّ نصرانية)] وهناك أسماء أخرى، قد تطول بها القائمةُ، كما هو شأنُ بلادنا مع تجار جعلوا المغربَ ينحو بسياستهم نحو الهاوية، وهذا ليس رجمًا بالغيب، بل هو (اسْتِبصار) أوصى به النبي الكريمُ، وبواسطته يُعرف مسبقًا أي مستقبل ينتظر الدولةَ، ومعها رعيتُها، انطلاقا مما يجري تحت الأنوف يوميا..
كان المسؤولون الكبار يهتمّون بجمع الأموال، ويكتبون للولاة والعمّال (كلٌّ في قطاعه الخاص] بتحفيزهم على جمْع الثروات، وحشْدها؛ والعمّال بدورهم لا يبالون كيف يجمعونها.. كتب خليفةٌ إلى واليه قائلا: [اِصطَفْ لي الصّفراءَ والبيضاءَ]؛ فكتب الواليُ إلى عمّاله كذلك، وأوصاهم أن يوافوه بالمال، ولا يعطوا حقّا لصاحب حقٍّ، ولا يُقَسّموا المالَ بين المسلمين، ذهبًا ولا فضةً: (اُنْظر كتاب العَقْد الفريد، لابن عبد ربّه؛ صفحة: 18؛ جزء 01).. كان العمّالُ من الجهة الأخرى، يختصّون أنفسهم بجانب من تلك الأموال، وليس ثمة مَن يحاسبهم؛ كانوا يختزنون لأنفسهم الأموالَ الطائلةَ، وتحسبًا لأي طارئ، كانوا يضعونها كودائع عند أناسٍ آخرين، حمايةً لها في بلاد العجم كالروم أو في خراسان (كما يفعل اليوم اللصوصُ في مغرب اليوم، وهم يضعون الأموال في دول أخرى).. لقد بلغت غلة أحدهم عشرة ملايين درهم في السنة، وزادت ثروتُه عن مائة مليون درهم: (اُنظر كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني؛ صفحة: 62؛ مجلد 19)؛ أو انظر كتاب (وفيات الأعيان) لابن خلّيكان؛ صفحة: 361 مجلد: 02).. وزادت نفقاتُهم زيادةً فاحشة، ولم يعدْ عندهم لصاحب راتبٍ أو معاشٍ أدنى قيمة، تماما كما هو شأن (مغرب اليوم) من دون أية مبالغة، حتى كتب [أميّة بن عبد الله] إلى [عبد الملك بن مروان] يقول: [إنّ خراجَ خُراسان، لا يفي بمطْبخي] اُنظر كتاب (التمدن الإسلامي) لجُرجي زيدان؛ المجلد (02) صفحة: 359. وقال أحدُهم لمواطن بصريح العبارة: [إنّما أنتم الرعية خزانةٌ لنا، إنْ كثُر علينا كثُرنا عليكم] (اُنظر كتاب (الخطط للمقريزي)؛ صفحة: 77؛ جزء: 01) أليس بالله عليكم هذا ما يحدث اليوم في بلادنا، وقد صار الشعبُ خزانةً للناهمين، والفاسدين، المتوجّهين بالبلاد نحو هوّة سحيقة؟!
لـمّا قصمتْ هذه السياسةُ ظهورَ المواطنين، وكان المسؤولون يبذلون الجهدَ في جمْع الأموال بأية وسيلة كانت؛ (مصادرها الغلاء الفاحش، ومصادرة المعاشات، والجِزْية، والخراج، والزكاة، والصدقة، والعشور..) وأهمّها في أول الإسلام الجزية لكثرة أهل الذّمة، فكان عمّال (بني أميّة) يتشدّدون في تحصيلها؛ فأخذ أهل الذّمة يدخلون في الإسلام، فلم يكن ذلك لينجيهم منها، لأن العمّال والولاةَ عَدُّوا إسلامَهم حيلةً للفرار من الجزية، فطالبوهم بها حتى بعد إسلامهم، وأول من فعل ذلك، هو [الحجّاج بن يوسف الثقفي] (وهو ما يقوم به هؤلاء في (المغرب) من أمور كثيرة يستغرب لها المواطنُ المغربي)؛ فارتدّ الناسُ في (خُراسان) عن الإسلام، بسبب سياسة الناهمين آنذا؛ وهو ما يحدث الآن في المغرب، حيث أجهزوا على صناديق التقاعد، وسوف يتركونه خاوي الوفاض قبل أن يرحلوا ليزداد عددُ الفقراء، وتعرف البلادُ هزّةً مدمِّرةً اجتماعية واقتصادية، ومع ذلك يتحدّثون عن إصلاح الإدارة، فيما الموظف صار منشغلا بمستقبله المجهول، يوم تقاعُده، وليس بإصلاح الإدارة..