[جون ديوي: 1859 ــ 1901] هو ثالثُ ثلاثة عمالقة، خلقوا الفلسفة [البراغماتية] خلْقًا، وأشاعوها في أرجاء أمريكا بحيث لم يعُدْ في وُسْع مثقّف ألاّ يتابعَهم في نتائجهم متابعةَ القَبول، أو متابعة الرفض، والإنكار، وهؤلاء الثلاثة، هم [بيرس؛ وجيمس؛ وديوي] على أنهم، وإنْ ذهبوا جميعًا مذهبًا واحدًا من حيث الأصول، إلاّ أنّ كلاّ منهم قد انْشعب به في اتجاه يميّزه عن زميله، والصفة المميّزة لِـ[ديوي] هي محاولتُه استخدام منهج العلوم في التفكير في (القيم الأخلاقية، والسياسية، والجمالية، وغيرها) تفكيرًا قد انتهى به إلى تغييرها تغييرًا يناسب ظروفَ الحياة الحاضرة، أو بعبارة أخرى، هي اتخاذ من الفكر "ذريعةً" للعمل على نحوٍ يحقّق للإنسان ما يبتغيه في مجتمع صناعي، ديموقراطي؛ ولكنْ هل بقيتْ أصلاً قيمٌ أخلاقية في السياسة الأمريكية، والمجتمع الأمريكي، حتى جاء [ديوي] يحييها لتخليق المجتمع؟!
لقد كان [ديوي] متأثّرا بالفلسفة الهيْغيلية في أولى مراحل حياته، ثم أخذت حياتُه تتطوّر حتى اتخذ لنفسه طريقةَ البراغماتي بقية حياته.. لقد كان هو الأصل في إدخال [البراغماتية] في التربية والتعليم، حين كان رئيسًا في جامعة [شيكاغو]، وحين قام بتجربة في التربية على نطاق واسع، أجراها على مدرسة ملحقة بالجامعة فعندئذ نفض يديْه من الفلسفة الهيْغيلية، وبدأ في وضْع الأساس لوِجْهة نظره، وهي التي يُطلَق عليها اسم [المذهب الذرائعي]؛ ولد [ديوي] ونشأ في ولاية [فيرْمُونت] في منطقة ريفية هادئة تعيش على الزراعة، ولأهْلها كلّ ما تقتضيه الزراعة من الأخلاق المحافِظة على القيم، والسّلامة، والأمن، والدَّعَة على المخاطرة؛ ثم انتقل [ديوي] إلى الغرب الأوسط، وهو إقليمٌ نزح إليه اللصوص، والمغامرون، من أهل الشرق، فما شهد سوى حياة اقتصادية تختلف عن حياة موْطنه الزراعي الذي نشأ فيه، إذ رأى الثراء الطائل يجْمعه صاحبُه في مثْل الـمِلح، ورأى الناسَ تغْلب عليهم المغامرةُ، والمخاطرةُ، وأمْيَل إلى العمل الحرّ الجزئي، إلى العمل الآمن المستقرّ، فكانت الحياةُ معرّضة للخطر فتأثّر [ديوي] بها..
قد يسألني القارئ الكريم عن فلاسفة أوربّيين هاجروا إلى أمريكا، فغيّروا جنسيتَهم، وانقلبوا على فلسفتهم، حتى ينْصهروا، ويذوبوا في المجتمع الجديد؛ الجواب: نعم؛ وما أكثرهم، لكنّي سأركّز على بعضٍ مِن أشهرهم، ذكرَهمُ التاريخ: [جورج سانْتايانا: 1863 ــ 1953]؛ كان شاعرًا، وأديبًا، وفيلسوفًا؛ ولد في [إسبانيا]، ونشأ في أمريكا، وظفر بأُسْتاذية الفلسفة في جامعة (هارفارد)، وهو في الفلسفة واقعيٌ، غير أنّه التفت بالواقعية لفتةً خاصّة، هي هذه التي أطلق عليها اسم [الفلسفة الطبيعية]؛ فهو كسائر الواقعيين في عصره يدير فكرهُ حوْل نقطتيْن رئيسيتيْن هما: أن الأشياء التي هي موضوعات المعرفة موجودة وجودًا خارجيًا مستقلاّ عن تلك المعرفة، وأنّ تلك الأشياء، موضوع المعرفة، لا تحتّم أن تكون كائنات عيْنية؛ بل قد يكون وجودها ممّا اصطُلحْنا على تسميته بالوجود الضِّمني.. فهو يذهب كما يذهب كثيرٌ من الواقعيين، وقد سقط في كثير من التناقضات في فلسفته، ونحن بصدد تقرير تاريخي، لا نقْدٍ فلسفي؛ فمعذرة سيدي القارئ الكريم!
[ألفريد نُورث وايتهيد: 1861 ــ 1947]، وهذا فيلسوف بريطاني، هاجر إلى أمريكا، ولم يكُنْ أمريكيًا بالمولد أو بالنشأة؛ فهو لم يهاجرْ إلى أمريكا إلاّ بعدما تجاوز سنّ (63) من عُمره، وشغل منصبَ الأستاذية في (هارفارد)، وقد اشترك مع الفيلسوف البريطاني الشهير [بيرتراند راسل] في [أسس الرياضة]، أربعة أجزاء، ولم يبلغْ [وايتهيد] مستوى [راسل] في الشهرة، وفي المواقف المشرّفة تجاه الفلسطينيين، ودعْوته إلى السلام، وقد دخل السجنَ بسبب ذلك أكثر من مرّة.. لقد سمّى [وايتهيد] فلسفتَه الجديدة في أمريكا [فلسفة البناء العُضْوي]، وسمّاها مؤرّخو الفلسفة [الواقعية الجديدة]، وأسماها آخرون [فلسفة الشّكل]؛ وأوّل ما نذْكره عن رأيه في الطبيعة، هو أنه يجعل حقيقةَ الشيء في طريقة تركيبه، لا في المضمون الذي يملأ ذلك التركيب، بل في صورته، وهيكله، لأنّ الهرمَ حتى، وإنْ بُنِيَ من ورقٍ، يسمّى لصُورته هرمًا، وأنّ الحوادث هي سلسلة الحالات التي تكوّن تاريخَ الشيء؛ هذه إجمالا خطوطُ فلسفته..
[هرْبرت ماركيوز: 1898 ــ 1979] فرّ من النازية إلى أمريكا، صاحبُ كتاب: [الإنسان ذو البُعْد الواحد]، حمل الجنسيةَ الأمريكيةَ.. كان أسلوبُه واضحًا، ولـمّا تعلّق الأمرُ بفلسطين، صار غامضًا ومتلعْثِمًا ومنحازًا لإسرائيل، ومتجاهلاً حقوقَ شعْبنا في فلسطين تمامًا كما هو موقف زميله اليهودي [شُومسْكي]، اليوم، من حقِّنا في صحرائنا المسترجعة، و[شومسْكي] يساند مرتزقة (البوليساريو) كما ساند [ماركيوز] الصهاينةَ المغتصِبين..
صاحب المقال : فارس محمد