طه لمخير
الذي يقرأ المراسلات الحربية التي يفقعنا بها السيد المعطي منجب على إحدى جرائد الشرق الأوسط دوريا، ومن خلال تتبع لأسلوبه في الكتابة وطريقته في التخلص إلى أغراضه؛ يُكَوّن رأيا جازما بأن الرجل لا تحركه المواضيع التي يكتب عنها بقدر ما تنزع به شهوة واحدة ووحيدة وقودها الحقد الدفين على السلطة، والمؤسسة الملكية بالذات، فلو فرضنا أن المعطي كتب في تسخين طعارج عاشوراء، لوجد حيلة يتخلص منها إلى تفريغ نصيب مفروض من الشتائم والغل على السلطة.
في مقاله الأخير الذي تربص له وكمن واعتكف أياما يجمع ما يمكن جمعه من المعلومات والأسماء والعلاقات التي يمكن عند عجنها ولتّها أن يعصر منها تحليلا ثورجيا لخلفيات المقاطعة وأبعادها الفلسفية والسوسيو اجتماعية وأطرافها المعنية— لم يخف "التوارخي" ما يتفاعل في دواخله من مشاعر الحنين إلى أيام العنف الثوري والربيع العربي وحركة عشرين فبراير، فتراه يقذف بكل ذلك ويحشره حشرا في زور حملة شعبية بسيطة في مطالبها واضحة في مسلكها لا تحتمل كل هذا الفقع والرقع الذي ينفخون به رؤوسنا عن ميتافيزيقيا الحملة، وأنتروبولوجيا المقاطعة، والمعاني الدلالية، والأغراض الجيوبوليتيكية، ونظرية الوعي الشعبي الذي نبع نبعا دون مقدمات منطقية.
ويقول لنا صاحب نظرية "شعار الموت ولا المذلة يصلح لأن يرفع ضد غلاء ليتر من الحليب كما على برميل متفجر من الكيمياوي" أن صديقا له يدعى محمد شقير من فطاحلة التحليل السياسي قال له: "تعتبر هذه الحملة ظاهرة احتجاجية شعبية بامتياز تتقاطع بشكل ملفت مع الحراك الشعبي لعشرين فبراير سواء من خلال التعبئة الافتراضية أو السلوك الاحتجاجي الذي لم يتخذ أي لبوس حزبي أو نقابي أو تنظيمي".
جميل! ها! وماذا أيضا؟
لكنه لا يقف عند هذا التحليل فهو لا يكفي في إبلاغ الرسالة الجوهرية للمقال والتي تكمن في قوله: "ويضيف نفس الباحث أن حملة المقاطعة هي نتيجة لتراجع دور التنظيمات النقابية كما أن لها رمزية سياسية، إذ ترمز شركة سنترال إلى السيطرة الاستعمارية في القرن الماضي أما شركة إفريقيا للمحروقات فهي ملكية «لأحد المقربين من المربع الملكي [...] وهو المتهم في عملية الانقلاب على رئيس الحكومة السابق الذي أفرزته صناديق الاقتراع الشعبي".
نعم، هذا هو المعطي الذي أفتش عنه، ولولا هذا المقطع في المقال لكنت أشك أن المعطي كان في وعيه ومزاجه المعروف، ودعونا نتناول هذه الجمل كل واحدة على حدة، فهو يرى أن المقاطعة لها رمزية سياسية تتمثل في المقاطعة المقصودة لشركة سنطرال لأنها ترمز إلى الحقبة الاستعمارية، ولست أدري هل الناس يشتكون من ليوطي أم من ارتفاع أسعار الحليب، لأن هذه مسالة أساسية حتى نحدد موقفنا على ضوء باقي المنتجات الفرنسية التي تشغل الملايين في بلادنا وعلى رأسها شركة رونو كمثال التي تعد الأكثر رواجا بعد داسيا بين المغاربة، وإذا كان الأمر كذلك فعلى المغاربة أن يلجأوا منذ اليوم إلى حمل حبوب السيانيد التي كان يحملها أعضاء المقاومة وجيش التحرير في جيوبهم وتناولها الزرقطوني حتى لا يفشي بأسرار المقاومة، ولابد أن علال بن عبد الله يستعد في هذه الساعة إلى الذهاب لساحة المشور لاغتيال العميل ابن عرفة..
ما هذا الهراء!
لكن هذا لا يكفي المعطي ليصل إلى شركة أفريقيا، وقد نغفر له (رغم خبثه) ذكر ملكية دون تشكيل، والتي قد تعني مِلكيّة أو مَلَكيّة، لكن ما معنى "أحد المقربين من المربع الملكي"، هل هذا هو التعريف الذي يعرف به نفسه عزيز أخنوش، وما هو هذا المربع؟ وما صفة تلك القرابة المزعومة؟، أم أنه إلقاء للكلام على عواهنه لمجرد التعريض الخبيث والاستعداء وفش الغل الذي يلبد لبدا تحت جلد الرجل، هل كل من التقى بالملك صار مقربا منه؟، لماذا يتعمد إقحام المؤسسة الملكية بمناسبة ودون مناسبة للتجريح والانتقاص، هل يعد ذلك مصدرا للفخار والبطولات العنترية؟، هل هو انتصار على الذات أم تعبير عن عقد النقص أم دغدغة لشعور الأمير تميم ابن أبيه؟
ثم ما الذي يوحي إليه هذا: […]؟
يعني يا رجل قلت كل شيء، وانخسفت فجأة شجاعتك عن […]؟!!
ويبدو أن الرجل أخَّر مقاله طويلا في انتظار أن تسنح إشارة ما من السلطة في صالح الشركات المقاطعة حتى يتلقفها تلقف الأفعى، وهذا سر كمونه طيلة هذه المدة، لكن ريح المقاطعة جرت بما لا تشتهيه نذالة المعطي، وفقعت القناة الثانية أعين المتربصين بتقرير يكاد يكون مع الحملة، وأوردت استطلاعات من الشارع العام كلها تصب في الرأي الذي يقول بالمقاطعة، ولكن المعطي أصر أن يمضي التقرير الحربي إلى نهايته منتصرا للمسلمات الصارمة التي تحدد موقفه من الدولة ككيان معادي لمصالحه الضيقة وتحالفاته التي لا تخفى على أحد.
لذلك قرر كل مرة أن يقلع ملطا ويشاور لنا بسوءته على صفحات الجريدة القطرية، وكان منذ الأيام الأولى للمقاطعة قد نشر على صفحته منشورا يضرب فيه أخماسا في أسداس وهو في حالة إنكار لموقف الدولة الحيادي الذي لم يرقه هذه المرة، لأنه سحب البساط من تحت أقدام المزايدين وشراميط الاسترزاق الذين تكون هذه المواسم بالنسبة لهم مأدبة لاستعراض النضال والضرب تحت الحزام.
إننا في مقدورنا أن نتناول امرأة مثل نبيلة منيب فنعارضها ونقف في وجه التحشيد الزائد والنبرة البلشفية التي تصبغ به خطابها السياسي، لكنها معارضة مغربية وتقف على نفس الثوابت والأسس التي يقف عليها أبناء الأمة، بيد أننا لا يمكن أن نقبل بمسترزق قطري أن يقصف المؤسسة الملكية في الطالع والنازل، ويحتال ليحشرها في كل حديث، وهل من قلة المعارضين في بلاد اليوسفي حتى يكون هذا المسخ في صف المعارضة الوطنية، على قول القائل: من قلة الخيل شدوا على الكلاب سروجا؟!
في الواقع، لقد أدارت الدولة الأزمة كما ينبغي. في السابق كان الإسلاميون في الحكومة يتذرعون "بالتحكم"، ويضعون الدولة في وجه المدفع ويخلصون أنفسهم من أي تبعات سلبية قد تلحق بشعبيتهم، فتكون النتيجة سخط عام يعقبه خروج فوضوي إلى الشارع، واصطدام حتمي بقوات الأمن، بينما يبقى حزب العدالة والتنمية يتفرج على الأحداث الملتهبة تحت ظلال اللامسؤولية.
اليوم وتفعيلا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وفق مقتضيات الخطاب الملكي، وضع المخزن الإسلاميين أمام مسؤولياتهم وأمام الشعب، وسحب نفسه من الجدل الدائر ، وها هم بعد أن طال صمتهم على الحملة في انتظار أي حبل يمتد لهم من أعلى السلطة، نفد صبرهم وخرجوا بتصريحات فيها من التهديد الصريح بمقاضاة المسؤولين عن الحملة، والإرجاف في المقاطعين ملوحين بمغادرة إحدى الشركات المقاطَعة للمغرب، واحتمال نشوب أزمة وخصاص في منتوج الحليب..
ورغم ذلك فإن المعطي لا يرى إلا ما تريده عرابة الإسلام السياسي، قطر، أن يراه.
إن المقاطعة منذ مراحلها الأولى وهي تتقلب بين تيارات لا مرئيّة في عالمها الافتراضي، بلا وجه ولا اسم أو عنوان، كالكرة، كل يحاول تلقفها وتوجيهها إلى الغرض الذي يريده: بن كيران وشيعته، العدل والإحسان ونفخها في كير القومة، الأحزاب اليسارية الثلاثة المنضمة مؤخرا للحملة، الشركات المنافسة في القطاع، أصحاب الحسابات الخاصة، العدميون والجاكوبيون الثوريون، وبسطاء الناس الذين هم فعلا متضررون من زيادة الأسعار..
حتى بوعشرين من داخل سجن عين برجة حاول ركوبها!
لكن رمانة الميزان في كل هذا الهرج كان هو موقف المخزن، وهو الذي أظهر بما لا مزيد عنه أنه لا يقف إلا في وجه الاحتجاجات التخريبية والحركات الأناركية التي تروع الناس وتعتدي على الممتلكات وترمي رجال الأمن بالأحجار وزجاجات المولوتوف، أما ما كان منها سلميا وفِي إطار من القانون والمشروعية؛ فإن الدولة تستقبله برحابة وأريحية، وهذا ما بات يخشاه أصحاب ديكتاتورية الشوارع وصخب الشعارات الملعلعة والحناجر الساخطة والتعبئة العنيفة الذين يراهنون بها على ثورة تحرق الأخضر واليابس، وما توهموه في وسائل التواصل سحرا انقلب على الساحر، وبدل أن تشن المظاهرات على الأرض حيث يستعرض الإسلاميون عضلاتهم؛ يبدو أن حقبة جديدة تظلنا، تشن فيها الحملات من شوارع الفضاء الأزرق الهادئة بعيدا عن المزايدات.
أما قصة البيت الذي صدرناه عنوانا للمقال واستبدلنا فيه كلمة المعطي بكلمة الوزير الأصلية، فهو من نوادر الطرائف الأدبية، وهو للشاعر محمد باقر الشبيبي وليس لمعروف الرصافي كما هو شائع— فنترك للسيد المعطي أن يبحث في قصته، ويرى وجه الشبه فيه بينه وبين الوزير المذكور في البيت.
#الملكية هي الحلّ