تَحمّلْني سيّدي القارئ الكريم، وجُدْ عليّ لفضْلك وكرمِك، بلحظات من تاريخك الشخصي الثمين، ما دام التاريخ في اللغة هو تعريف الوقت، وأطَمْئِنُكَ أنّي لن أضيعَ وقتَكَ، لأنّي لا أكتب مقالات [شطائر] التي لا تشبِع، ولا تُسمن، ولا تغذّي جسدًا؛ تلك كتابات تُسْتَعمَل لقطْع الوقت، أيّ لهدْره، وهو بمعنًى آخر، تبذيرٌ لوقت ثمين من حياة الفرد القصيرة وإنْ طالت، فالزمن يؤدّي بها إلى نهاية.. أوّلا، سنحاول قدْر الإمكان تعريف [التاريخ] ما دام الإنسانُ كائنًا تاريخيا؛ لكنْ ما هو التاريخ يا تُرى؟ التاريخ كما قلنا في اللغة يعني تعريف الوقت؛ وتاريخُ الشيء وقتُه وغايتُه؛ والتاريخ أيضًا علمٌ يبحث في الوقائع، والحوادث الماضية.. وحقيقتُه كما قال [ابن خلدون]: [التاريخ خبرٌ عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمْران العالم؛ وما يعْرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثْل التوحُّش، والتأنّس، والعصبيات، وأصناف التغلّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك، والدول، ومراتبها، وما ينتحله البشرُ بأعمالهم، ومساعيهم، من الكسْب، والمعاش، والعلوم، والصّنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال.] (المقدّمة؛ صفحة: 57)..
إلا أن بعض المؤرّخين، يقتصر على ذكر الأخبار من دون أن يذْكر أسبابها، وبعضُهم الآخر يمحّص الأخبار، ويعلّل الوقائع، ويستبدل بالتسلسل الزماني ترتيبًا سببيًا يُرجِع فيه الحوادثَ إلى أسبابها، والوقائعَ إلى أحوالها.. فإذا جعل المؤرّخُ همَّه تمحيص الأخبار، ونقْد الوقائع والآثار، كان تاريخُه انتقاديًا؛ وإذا استخرج من ذكْر الأحوال الماضية عبرةً تتمّ بها الفائدةُ، والاقتداءُ لمن يروم ذلك في تربية النَّشْء، كان تاريخُه أخلاقيًا؛ وإذا عُنِيَ بأخبار الدول، وعلاقاتها للإفادة منها في تدبير شؤون الدولة، كان تاريخُه سياسيًا؛ وإذا تجاوز ذلك كلّه إلى تعليل الوقائع، لمعرفة كيفية حدوثها وأسباب نشوئِها؛ كان تاريخُه فلسفيًا؛ ولا أُنْكِر أنّي من أتباع هذا النوع من التاريخ، منذ سنين خلتْ، وأقضي في قراءتِه الساعات، بل الليالي الطِّوال، والبحث المضني، بين المراجع المختلفة، وأُصابُ بصدمات إيجابية، وهي الأساس في اليقظة والتوعية..
والتاريخ عند الفيلسوف [فرانسيس بيكون: 1561 ــ 1626]: [هو العلم بالأمور الجزئية، لا بالأمور العامّة؛ والقوّة النفسية اللازمة له هي الذاكرة، وهو ضدّ الشعر، لأن موضوع الشعر وهميٌ، وموضوع التاريخ واقعيٌ.]. قال تعالى: [هل أتى على الإنسان حيـنٌ من الدّهر لم يكُنْ شيئًا مذكورًا]؛ وقال وهو أعزُّ القائلين: [فذكِّرْ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين]؛ وقال جلّ جلالُه: [إنها ذكرى لمن يتذكّر.] صدق الله العظيم. لهذه الأسباب، قال فلاسفة التاريخ [التاريخ علْمُ الملوك]، يعْني علم الملك، والوزير، والمسؤول، والمدبِّر لشؤون الأمّة.. ويوضّح التاريخ أن كلَّ مَن أهمل التاريخ هلك، مثْل [هتلر] لم يستفِدْ من كارثة [نابليون] في (روسيا) سنة (1812)؛ و[صدّام حسين]، و[معمَّر القذّافي]، وخلفاء آخرين قد يطول بنا الحديثُ لاستعراض خيباتهم؛ فمعذرة!
واليوم، سنعْرض لخرافة لا تقلّ غرابةً عن الخرافة التي وظّفها [بيسارُّو] لتحطيم إمبراطورية [الأنكاس] في (البيرو) كما رأينا في مقالة سابقة.. هذه الخرافة أيضا كانت سببًا في تدمير حضارة (الأزتيك) في [المكسيك]؛ كيف ذلك؟ كان [هرناندو كورتيس: 1485 ــ 1547] في جزيرة (هِسْبانيولا) سنة [1504]، وفي سنة [1541] ساهم في غزو الإسبان لجزيرة [كوبا]، وتزوّج قريبة الحاكم الإمبراطوري، فعيّنه الحاكمُ محافظًا لمدينة [سانتياغو].. وفي سنة [1518] اختاره على رأس بعثة لغزو [المكسيك].. فأبْحر [كورتيس] في (فبراير سنة 1519) بإحدى عشرة سفينة، و(110) بحّارين، و(553) مقاتلاً، و(10 مدافع)، و(16 حصانًا) ونزلتِ الحملة العسكرية يوم (الجمعة الحزينة) في موقع (ڤيراكروز) اليوم..
نزل [كورتيس] إلى الشاطئ، فأصاب جنودَه الفزعُ بسبب أعداد قوات [الأزتيك]؛ وأول شيء فعله هو إحراق السفن كما فعل [طارق بن زياد] سنة [92] في الأندلس، حتى لا يطمع أحدٌ في العودة أو الهروب؛ فمات الكثيرون من جنوده، ومع ذلك تابعوا القتال بالمدافع، والخيول، بالإضافة إلى حُسْن التخطيط؛ ومن الغرابة أن يتمكّن [كورتيس] وبعدد قليل من الرجال من التغلب على مئات من الهنود الحمر.. لكنْ هناك سببٌ آخر وهذه هي المفاجأة: كانت أساطيرُ [الأزتيك] تقول إنّ إلاهَهم سوف يعود طويل القامة أبيض، طويل اللّحية؛ ولذلك اعتقدوا أن [كورتيس] هو هذا الإلاه الذي علّمهم زراعة الأرض، وصناعة المعادن، وانهارتِ [الأزتيك].. عزل الملكُ [كورتيس]، وعاد إلى [إسبانيا] بالغَ الثراء والمرارة؛ لكنْ أملاكُه في المكسيك ورثها ابنُه وتساءل [كورتيس]: هل ما فعلته حلال أم حرام؟
صاحب المقال : فارس محمد