طه لمخير
في علم الاستشراق، يتحدث العلماء عن استشراق "بالمعكوس"، أو ما يطلق عليه بعضهم "الاستغراب"، ولا تستغرب، فبعد أن تلقت أيديولوجيا المستشرقين ضربات قاتلة على يد ادوارد سعيد في كتابه المرجعي "الاستشراق" وباتت من تاريخ الأيديولوجيات الغربية، أراد بعض الكتاب الإسلاميين والقومجيين أن ينتقموا بأثر رجعي من أعمال المستشرقين بنفس وسائلهم، وروجوا لتصورات جاهزة وأحكام مسبقة على الغرب، رغم أن جثة الاستشراق الذي ولد عام الحملة الفرنسية على مصر، واختمر على يد دو ساسي وفون هامر ولفيف من العلماء الكاثوليك في القرن الثامن عشر، وازدهر في الروايات وأدب الرحلات— قد تحللت وتكمكمت في زمن الحداثة وما بعد الكولونيالية، وحلت محلها عقيدة الدراسات الأكاديمية المبنية على حقائق العلم ومستندات التاريخ.
في علم الاستعدائيات والعدميات- وهو خصيصة مغربية يقوم عليها طغمة من فطاحلة فن القدح والتعريص- هناك منهجية انتقامية تريد أن تُحمِّل الحاضر خطايا الماضي، ولا تنفك عن هذه اللوثة جل ما تنتجه الصحافة المشبوهة من تعليقات ومقالات متحاملة على الدولة بمناسبة ودون مناسبة، ممزوجة بتراث سمين من السباب والشتائم التي يستخدمها الفوضويون في تكتيكات التعبئة المعنوية التي تمهد للعنف الثوري، بحيث أصبح لكل كاتب منهم شتائمه الخاصة ومقلاع لفظي يُحرِّش به على الدولة، حتى تكاد أن تجزم بأنهم يكتبون من داخل قبو يقف على بابه إدريس البصري شخصيا، وحلماتهم موصولة بأسلاك الصعق الكهربائي، فما تقرأه لهم هو ترجمة للكهرباء التي تسري في جلودهم عندما تدار الوصلة.
يذكرني هذا الوضع الميلودرامي بمشهد ليام نيسان في الجزء الأول من فلم المختطفة وهو يصعق البوسني الذي اختطف ابنته في البيت المهجور، ورغم أن الرجل كان يمثل، وكلنا يعلم أنه يؤدي دورا يتقاضى عليه أجرا؛ فإنك تشعر في لحظة الاستلاب من الواقع أن الرجل فعلا يتمزق جلده من جرعات الكهرباء المتواصلة.
إننا نشهد التطور الإيجابي والتفاعل البناء للسلطة مع الأحداث، هناك صدق في الإصلاح وعزم على تدارك النقص وأريحية في قبول النقد وتنمية لمفهوم العقد الاجتماعي، الدولة ليست إلها معبودا لا يخطئ.. في مقابل ذلك لا نجد إلا التيئيس والتبخيس، وموجات متتالية من التشنيع والاستفزاز المباشر والابتزاز الذي يقصد منه تسخين "الطّرح" وتصعيد المواجهة وكأن بعضهم يقول للدولة: إنك مهما فعلت.. تطحنين الهواء!.
الدولة (لا أتحدث عن الحكومة الملتحية) كائن حي يرفع من معنوياتها الثناء على أعمالها الحسنة وإنجازاتها المعتبرة ويدفع بها إلى المزيد، والاستخفاف بها والتنكر لمواقفها يفُتُّ في عضدها ويحبط مساعيها، فلا بد من الاعتدال ومراقبة الإنصاف في مطارح النقد والتقويم.
وإنه لمن النذالة والخبث أن ينزغ كاتب في الناس بعبارتي: "هز الكلب.. وطحن مو" ويفصل منهما شعارا للمرحلة، كلمتان قد تسمعهما من أقاربك أو أترابك في الدرب أو وأنت تلعب مباراة على الرصيف مثلا، لكن هل هذه الحوادث الفردية التي تنسب إلى بعض أفراد الشرطة هنا وهناك؛ تجعلنا نُكوِّن رأيا موضوعيا عن جهاز وطني ونصف هذه الوقائع النادرة بالظاهرة؟، هل هذا حال الشرطة في بلادنا؟.
في أمريكا، لا تتوقف حوادث الاعتداء على مواطنين لاتينيين أو من ذوي البشرة السمراء، تصل إلى حد رميهم بالرصاص وسحقهم بالأقدام، ورغم ذلك لم يدّع أحد أن هذا سلوك منهجي في دوائر الشرطة الاتحادية، بل يتم التعامل مع تلك الحوادث في الإعلام في حجمها الطبيعي دون مزايدات أو تأليب للرأي العام على جهاز يسهر على حماية المواطنين ورعاية أمنهم ومصالحهم.
أحمل هذا القلم وأكتب بصدق لا حاجة لي فيه إلى ملق، وأضع في كل كلمة مضغة من كبدي حية تنبض، وأؤمن بأن أقواما نعرفهم بسيماهم لم ينفكوا يكيدون لأمن هذا البلد، و أن وراءهم خطاطة مرسومة وآمالا عراضا وثورات وحروبا طائفية وفوضى عرقية وأنهارا من الدماء لا يقف في وجهها إلا المخزن، نعم المخزن، ولتسمعها كل جارحة من جوارحهم.. وطريقنا أن نعلن الحرب على أولئك الذين عندما فشلوا أن يكتبوا شعرا اتشحوا بسيف يقطعون به الرقاب.
إن أقلامهم لو كانت فأسا لانكسرت، ولو كانت لسانا لطال حتى تدلى على ركبهم من شدة الشحذ.. لم يبق في البلد مهندس ولا زارع ولا طبيب ولا جامعي ولا عاطل على رأس الدرب إلا انقلب منظرا قائما على جيش من الساخطين يبصقون الكلام من حناجرهم كما يبصقون النخامة في نهار رمضان، ليس فيهم إلا معارض كافر بالزمن يلعب بالسيف، ويرخي شاربه، ويدخن السيجار، ويطارد الفتيات، ويستمني بالمناشير، ويلعلع بالتهديد، وينفث الوعيد، وينفخ من أشداقه ثورة من تكنولوجيا الغل والحقد والديمقراطية على كل ما يتحرك ويتفاعل…
هؤلاء لا تبنى بسواعدهم دول بقدر ما يحفرون حفرة في مقعدة الكرسي الذي يجلسون عليه. وينتقدون الحفرة!.
#الملكية هي الحلّ