هناك فيلسوفٌ من أصل ألماني فرَّ من النازية، وحمل الجنسيةَ الأمريكية، ولقِّبَ بـ[فيلسوف القرن (20)]، وأعني به [هيرْبِرت ماركيوز: 1898 ــ 1979]؛ كرّس فلسفتَه لنقْد [الإنسان ذي البعد الواحد]: وهو القائل: [إنّ تاريخَ الإنسان، هو تاريخ قَمْعه]، وما هي وسائل القمع؟ أهيَ الهراوة؟ يجيب [ماركيوز] بالقول: [كلاّ! هناك وسائل أخرى أشدّ من السّياط التي تلهب الجلود؛ هناك وسائل قمْع تجْلد العقولَ، وتجْعلها ذات بُعْد واحد وهي الجنس، والإعلام، والإعلانات الإشهارية، والدعاية السياسية، فتُلْغى الحريةُ ليحلّ مكانها وهمُ الحرية؛ فلا تجد تعدّدًا في التحليل مثلاً بيْن رأسمالي وشيوعي، وقسْ على ذلك.]، وإذا دقّقْتَ النظر اليوم، لألفيتَ صحّة نظرية [ماركيوز]؛ فالمحلّلون لا يختلفون، ولا يقولون شيئًا جديدًا في قنوات القمع التي انتشرت كالفِطر، واعتاد عليها المواطنُ، وكأنها مخدّرٌ صار مدمنًا عليه..
أنا لا أدّعي علمًا، ولا أمتاز بثقافة، ولكنّي أعتزّ بـ(أنّي لا أجهل أنّي أجهل)؛ يجرّنا هذا الحديث عن المحلّلين أصحاب البُعد الواحد، وهم يحلّلون مشكلةً مفتعلةً في صحرائنا المسترجعة، ويجهلون، لأُحادية بُعْدِهم، أنّ هناك عوامل أخرى عقّدت المشكل، بعدما كان في الثمانينيات على وشك الحلّ، حيث قال جلالةُ الملك [الحسن الثاني] رحمه الله أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة: [أُعلن من هنا رسميا، أنّ ملفّ الصحراء قد أُقفِل.] قالها بالفرنسية، وفي الشطر الثاني من خطابه بالعربية قال: [جلسْنا وراء السِّدْرة، فاختفتْ علينا الغابة.]، وهذه مشكلة العقلية ذات البُعد الواحد التي نعاني منها اليوم في تحليلاتنا ذات البُعد الواحد هي كذلك..
مَن منّا يعي تمامَ الوعي أنّ دخولَ [البوليساريو] إلى المنطقة العازلة في صحرائنا، تزامن مع دخول [إسرائيل] إلى الحدود مع [غزّة في فلسطين]، وصارتْ تقتل ويتبارى قنّاصُوها في قتْل فلسطينيين، وكأنهم في مهرجان رمْيِ الحمام؟ ثم لا أحد بعث بتعزية باستثناء جلالة الملك [محمد السادس] نصره الله؛ ثم لا أحد حذّر الرئيس الأمريكي من مغبّة نقْل السفارة الأمريكية إلى القدس مثْل ما فعل بلهجة صريحة ملكُ المغرب؛ ثمّ لا أحد جدّد مساندتَه للكفاح الفلسطيني مثْل ما فعل ملكُنا، وهو الأكثر بُعدًا جغرافيًا من فلسطين السّليبة، ثم لا أحد يلاحظ أنّ علَم (الجمهورية الوهمية) يشْبه الأعلامَ التي رسمها [سَايْس وَبيكو] عندما كانا يُجزِّئَان العالمَ العربي إلى كيانات قزمية مصطنَعة؛ ثم لا أحد لاحظ أن [الجزائر] كانت تستغلّ مؤتمرات (منظمة التحرير الفلسطينية) في الجزائر العاصمة لخدمة جبهة (البوليساريو)، ثم إن الفلسطينيين صار لهم موقعٌ في الخريطة، عندما نقلوا قضيتَهم من الجزائر إلى المغرب؛ فدخل القادةُ، والزّعماء إلى فلسطين، بدل شتاتهم في عواصم مختلفة؛ ثم لا أحد منهم اغتيل على أرض المغرب الآمنة؛ ثم لا أحد يتذكّر أن [الجزائر] ساندتْ [إسبانيا] في قضية [جزيرة ليلى] سنة (2003)؛ فكيف بها ستعترف بحقِّك في صحرائك المسترجعة؟!
أما بعد؛ سيّدي القارئ الكريم، وأنت سيّد العارفين، فإنّ المغربَ يدفع فاتورةَ مواقفِه الثابتة مع الكفاح الفلسطيني في صحرائه المسترجعة؛ أليس المغربُ هو صاحب (بيت مال القدس)؟ أليس هو من شيّد عدة منشآتٍ اجتماعية في فلسطين؟ أليس هو من يترأّس (لجنة القدس)؟ لهذه الأسباب يعرقلون تسويةَ المشكل المفتعَل في صحرائنا، ويماطلون، وينافقون، وبمشكل الصحراء على المغرب يضغطون، ويساومون، ويستقبلون سفراءَ (جمهورية وهمية) لا سندَ شرعي لها، بل هي منظّمة انفصالية إرهابية، يريدون بها زَرْعَ كيانٍ مصطنع في صحرائنا، تمامًا كما غُرِسَت [إسرائيل] في أرض فلسطين.. ثم لماذا لا تساند [الجزائر] فلسطين، كما تساند، وكما تنفق، وكما تدافع عن [البوليساريو] لو كانت صادقةً؟ يحدث هذا كلّه، والمغربُ ثابتٌ في مواقفه، بسياسته، وأمواله، مع أشقّائه في فلسطين؛ ثم سؤالٌ جدير بالطرح، وهو: ماذا استفادت فلسطين سياسيًا، ومادّيًا، من الجزائر؟ وماذا استفادت فعليًا من المغرب؟ أجيبوني أنتم، ولكم كلّ الفضل! أمّا الذين يجهلون أنهم يجهلون، فنقول لهم قوْل الشاعر حين أنشد:
سوف تُبْدي لكَ الأيّامُ ما كنتَ جاهلاً ** ويأتيكَ بالأخبار مَن لم تُزَوِّدِ..