طه لمخير
رشيد موتشو أو رشيد غلام، هو من ذلك الصنف من الذباب الذي يحب أن يقتات لذاته من مزابل مختلفة، ومن هنا نبتت له أجنحة زرقاء مسمومة تطنّ طنينا، فهو مع كونه أيديولوجيا وحركيا محسوب على مريدي الشيخ الهالك عبد السلام ياسين، فهو أيضا، بالتشارط المتبادل، يقدم خدماته المدفوعة الأجر إلى تيار الإخوان المسلمين، وكذلك إلى تيار العثمانيين الجدد في تركيا الذي يقوده داوود اوغلو.
طبعا، هذا دون أن يمس ذلك بمصالح الجماعة الأم؛ بمعنى أن خدماته للتيارات الإسلامية الأخرى تكون في مستوى المشروع الكلي الذي يقف على أرضه مختلف الفرقاء الإسلاميين، دون المستويات الدنيا التي تتضارب فيها مصالح هذه التيارات على استقطاب الحصيص الإسلامي/الإسلامي.
وهذا -إن شئنا التشبيه- هو نفس التكتيك وأسلوب العمل الذي يطبع حياة المومسات، فمعظمهن يكنّ في ملكية قوّاد يحميهن ويأكل من عرقهن، أو عصابة تتاجر بهن من وراء ستار، لكنهن في نفس الوقت ملك مشاع للفيف من زبائن الماخور.
رشيد غلام، الذي يصفه البعض بزير المذيعات ومؤنس المطربات، يجيد اقتناص الفرص خصوصا في الشرق الأوسط حيث المال والشهرة وقنوات الخليج، فهو حاضر أبدا في جل الأحداث التي ترتبط بحركات الإسلام السياسي: من ميدان رابعة إلى مظاهرات حماس، ومن حطين إلى عفرين، ومن طهران الى لبنان...
ولا تؤاخذوني عندما أقول إن الموتشو -وهو طحلب عتيق من طحالب الجماعة- لا زال يزاول هوايته الخبيثة في المزج بين الأوتار الصوتية الملعلعة والتعبير عن حقده الدفين تجاه الدولة، وهو في طريقه هذا لا يستنكف أن يجعل الفن مطية للإيديولوجيا، وأغاني المديح وكلاسيكيات الطرب العربي وتواشيح الشام سبيلا لبث بروباغندا الإسلاميين.
ومن هنا فالفنان المؤدلج يفقد لطف الحياد وبراءة الوجدان، ويصبح فنه غليظ الرقبة ونغماته كمطارق الحديد وقرع طبول الحرب والفتنة المزمنة، بدل أن يمتع الناس ويسلّيهم؛ يلعب دورا مشبوها في الدفاع عن "الحقيقة" في الأرض، وينقلب هذا الفنان رغم تنكراته الروحية خلف الألفاظ والرسوم والصور المتخمة بالفضيلة والقداسة؛ إلى طاغية فني محرض، حاقد و مسمّم للأفكار.
على أن الرجل لم "ينجح" إلا على أكتاف تلك المقطوعات الخالدة، أما ما أنتجه بنفسه فكان صورة لاضمحلال الخيال وعقم الإبداع الذي يميز عادة هؤلاء المنشدين المعتنقين للأيديولوجيا، إذ تنحبس حويصلاتهم في أفق أضيق من عنق زجاجة، ولعجزهم عن الاقناع والمنافسة، ولقلة الخيارات المتاحة أمامهم؛ يسمون ما يقدمونه فنا "ملتزما".
وهكذا وجد الموتشو في القطع الموسيقية التي يرددها لكبار الفنانين العرب (ومعظمهم كانوا إما ملكيين في عهد الملك فاروق أو قوميين ناصريين) وسيلة يختبئ وراءها مرة تلو أخرى لنفث عداءه السوقي لثوابت البلاد.
النفوس تكون أكثر استسلاما وأقل انتباها لتلقي الأفكار المقيتة عندما تعالجها بالغناء والروحانيات التي تخدر الحواس وتوهن ملكة الوعي النقدي لدى المتلقي، يقع المستمع في فخ الخلط بين اللحن والشعر والأداء الغنائي، وبين شخصية من يؤديه وخلفيته، والمعجبون بفنان ما، لابد، في لحظة من اللحظات، أن يعجبوا بآرائه في الفكر والسياسة حتى وإن كانت تلك الآراء غاية في التسطيح والتهافت، فمن صفات الجمهور الضعيف الوعي السياسي، عجزه عن الفصل بين مشاعره، والاندفاع الساذج وراء الأجندة السياسية والأيديولوجية التي يتبناها الفنان ويروج لها في أوساط معجبيه.
سأفقعك بأداء بارع لقطعة من "القلب يعشق كل جميل"، ستطلبني في الفايسبوك بدافع الفضول الفني، ستجد المقطوعة، ولكنك ستجد معها مناشير تبشيرية أيديولوجية تدعو إلى "القومة" والفوضى وسفك الدماء، سأفقعك قطعة أخرى من "الهدى والنور"، ستبهرك القطعة، لكنني لا أعطي شيئا مجانا، لذلك عليك أن تقرأ المنشور الموبوء الذي يتبعها وهو يضرب في أركان الدولة، ويدعو إلى ثورة دينية على خطى إيران، أو يبشر بالأُضلولة.
والموتشو من تلك الفئة من الإسلاميين الذين يحظون برخصة استثنائية في أوساط الإسلاميين، هم يعلمون ذلك، هي مثل جواز ديبلوماسي فوق أيديولوجي يسمح لحامله بتجاوز الخطوط السلوكية الحمراء لدى الإسلاميين، وتسنح له بأن ينعتق من أغلال أخلاقيات الأيديولوجيا وقواعدها باعتباره استثناء لها، ودخول حومة الفن وعالمه دون كثير حرج.
له أن ينغمس ويتلطخ بعوارض هذا الملكوت، وله أن يكون موتشو غير الموتشو، لأنه في مهمة استراتيجية للاستقطاب والدعاية.
يتجاوز الإسلاميون عن غناءه "العذري" و"الإباحي" إلى جانب مطربات "منحلات" وهو يتمايل شهوة ويتخلّعُ شبقا و يكاد يُحسّس على صدرورهن(باعتبار الفنانات من منظورهم محل سبي واستمتاع) وغير ذلك من "المخالفات" التي يستثنى منها أمثال هؤلاء الذين "تضحي" الدعوة بهم من أجل مصالحها الكبرى وشهوة السيطرة والتمدّد، وحتى يخلط المرء بينهم وبين فنانين آخرين "عاديين" يغنون للحياة وبهجتها، لا لعقائد الموت والشهادة.
إنه انغماسي أو انتحاري بنكهة أخرى، بشكل أكثر لطفا وأقل عنفا، وقد يقع أحيانا في ما تعده جماعته "موبقات"، مثل المضاجعات الجنسية الصريحة، لكن ذلك يبقى في مستوى الأضرار الجانبية، وبالتالي؛ فمن قدر له منهم أن يبلغ به زورقه هذه الربوع؛ فلينطلق، وليغزو، وليسحق أخلاقياته ظرفيا، فنحن بصدد المُخور والعبور في أعالي بحار الفن، وعندما نرسو بالزورق، نبدأ في وضع شروطنا وتقييم العالم الذي دخلناه حديثا بمنظارنا الإيديولوجيا.
#الملكية هي الحلّ