في قصاصة أصدرتها أمس حول تطورات محاكمة الصحفي توفيق بوعشرين، المتابع بجرائم جنسية ثقيلة من قبل القضاء المغربي، عبرت وكالة الأنباء الفرنسية “AFP”، وكعادتها كلما تعلق الأمر بمعالجة قضايا المغرب، عن مهنية عالية، تناولت من خلالها القضية برمتها من زاوية نظر المشتبه فيه، الذي تحول إلى كاتب رأي مستهدف، في وقت تم إخضاع ضحاياه بشكل مقصود لعملية تشكيك مجانية وممنهجة.
فقد انبرى التوجه التحريري لناشر القصاصة، الذي يصب في نفس النسق الذي اختاره دفاع بوعشرين خلال الجلسات السابقة لمحاكمته، إلى الهروب بعيدا عن الوقائع المدعومة بتصريحات الضحايا والأدلة الجنائية والنصوص القانونية، التي تدين المشتبه به أكثر مما تساعده، ليتناول بالتفصيل جزئيات لا تغير شيئا من جوهر القضية، من قبيل عدد الضحايا وحضورهم للجلسات أو غيابهم، واجترار تصريحات هيئة الدفاع ومن يدور في فلكها من السياسيين.
وإمعانا في المهنية، اختارت وكالة الأنباء الفرنسية أن تضفي على العدد الحقيقي لضحايا بوعشرين صفة الغموض والشك، مع العلم أن عدد “المصرحات” أو “المشتكيات” في هذه القضية معروف للجميع، وسبق تداوله بالإسم والصفة أمام القضاء وفي الفضاءات الإعلامية، وهو ثابت في ملفات المحاكمة، ولا يقبل كل هذا اللغط الإعلامي والمزايدات المجانية، المستمدة من قاموس خلط الأوراق الذي ابتدعه النقيب زيان وشركاؤه.
وبدل ذلك، كان من المفترض في قصاصة وكالة الأنباء أن تنطلق من حقيقة أن وجود ضحية واحدة كاف وملزم بالمتابعة، أما سقوط ضحيتين لجريمة متماثلة فيعتبر في أعراف الأنظمة الجنائية الحديثة حالة “عود” مشددة للعقاب، فكيف وأننا أمام مجموعة من الضحايا، تصر جلهن على الجهر بالاعتداءات التي تعرضن لها، مما يؤكد أننا أمام “مغتصب بالتسلسل” تتوفر فيه كافة الشروط التي اعتمدتها أجهزة تطبيق القانون في هذا الصدد، وفي مقدمتها مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي الذي وضع منذ سنة 1979 جملة من الشروط التي تتوفر في “الإجرام بالتسلسل”.
وفي نفس السياق، سبق وأن أكدت مصادر متطابقة أن تنازل الضحية (أمال. هـ)،-المحسوبة على حزب سياسي- عن المتابعة، قد جاء تحت ما تم توصيفه بـ”ضغط” هائل من الإطار الحزبي والحقوقي اللذان تنتمي إليهما، الأمر الذي تسبب في حينها في خلاف كبير مع المحامي المنتصب للدفاع عنها، ما دفع هذا الأخير إلى سحب نيابته. علما أن الأمر يحمل في حد ذاته تأكيدا وتثبيتا لواقعة الاغتصاب والاتجار بالبشر وباقي الجرائم المذكورة في صك المتابعة، مادام أن هناك أطرافا تجتهد في البحث عن تنازلات لضمها إلى وثائق الملف.
أما الضحية الأخرى “عفاف. ب” أو “المرأة الشجاعة” كما أسماها النقيب زيان، فقد سقط سهوا من القصاصة الفرنسية الإشارة لشريط الفيديو الذي عرضه ممثل النيابة العامة وهي تقرأ محضرها بأريحية كبيرة، وتوقع تصريحاتها التي تتهم فيها توفيق بوعشرين بالتحرش الجنسي، أي أن “المرأة الشجاعة” ليست إلا “كاذبة في اتهامها للشرطة بتزوير أقوالها”، حسب ما أورده الوكيل العام للملك أمام جمهور الصحفيين الذين حضروا الندوة.
وبالمقابل، ولو رفعا للحرج، ألم يكن من المفروض في تغطية إعلامية مهنية ومحايدة أن تستمع لصوت باقي الضحايا، وهن الأغلبية اللواتي قررن إسماع صوتهن ورفع الستار عن الممارسات السادية للصحفي صاحب القلم الحر، فضلا عن تسليط الضوء ولو باحتشام مقبول على المبادرات التي أطلقتها أصوات جمعوية وسياسية حرة للدفاع عن ضحايا الممارسات الجنسية القصرية عامة، وضحايا بوعشرين على الخصوص، وهي المبادرات التي تبنتها أطراف ليس لها أية مصالح شخصية في هذه القضية، سوى نصرة المظلوم وإحقاق الحق.
وبالعودة مرة أخرى إلى التصريحات الواردة في خبر الوكالة الفرنسية، والمنسوبة إلى المحامي البريطاني “ديكسون”، فلابد من إعادة التذكير أن ازدواجية الخطاب التي ينهجها هذا الأخير أصبحت مكشوفة للجميع، ففي الوقت الذي تنحو سياسة بلاده إلى تشديد العقاب في حق مرتكبي الجرائم الجنسية، والاهتمام أكثر بالوضع القانوني والنفسي لضحايا هذا الشكل الإجرامي، يخرج علينا الأخير كل مرة بتصريحات يُلغي فيها بشاعة الجرائم المنسوبة لتوفيق بوعشرين، ويُبخس فيها حق الضحايا، وذلك في ازدواجية مكشوفة للمواقف، تنبأ أننا أمام إسقاط متعمد للمنطق والوقائع، في مقابل استغلال البعض “لعقدة الأجنبي” في تسييس القضية.
ثم إن ولادة هذا التحالف المشبوه بين وسائل الإعلام المستقلة وتلك التي تنتمي إلى قطب الإعلام العمومي الفرنسي، واتفاقها على البحث عن تبرئة توفيق بوعشرين من تهم جرائم الاتجار بالبشر والاغتصاب من جهة، واجتماعها في المقابل على الإدانة المسبقة للداعية طارق رمضان المتابع بجرائم مماثلة في فرنسا، مع ندرة الأدلة التي تدينه، يحمل في حد ذاته أكثر من دلالة، يبقى أبرزها أن تسييس قضية بوعشرين وربطها بكتاباته السياسية، ما هو إلا استمرار لسياسة الانتهازية والتشويه الممنهج لصورة المغرب، التي انطلقت مبكرا مع ما يعرف بقضايا زكرياء المومني وعادل المطالسي والآخرين… واستمرت ولو بأشكال وصور أخرى مع قضية بوعشرين..