ضربت الهمجية مرة أخرى في قلب فرنسا، وقصة بطولة دركي شاب أدى حياته ثمنا لإنقاذ شخص آخر غطت على الحادث. صورة البطل هنا تحمل الكثير من القيم المرتبطة بالتضامن والإيثار، وهما عماد العيش المشترك داخل الجمهورية الفرنسية. العقيد الملازم أرنو بلترام لم يقدم على فعل شجاع فقط، لكنه ارتقي بمنظومة القيم ، وصدق ميلانشون حين وصفه ب ‘‘ بطل الإنسانية‘‘.
غير أنه وككل مرة، الحادث أثار الكثير من الجدل من كل الاتجاهات. هناك توجه في البحث، على افتراض أنه ليس خاطئا بالمرة، فسيكون على الأقل غير مكتمل الحيثيات والتفاصيل، يقترح مقاربة أمنية وقضائية وحيدة وواحدة للاعتداء الإرهابي. فباستثناء مجموعة بلجيكا التي نفذت اعتداءات 13 نونبر في فرنسا، باقي الهجمات الإرهابية التي هزا فرنسا، نفذها فرنسيون أو أجانب مقيمين فيها. هذا النوع من الإرهاب محلي الصنع، وهنا يقع الإشكال الذي على الفرنسيين حله.
تاريخ فرنسا لا يشبه تاريخ أية دولة أوروبية أخرى، ويرتكز على قيمتين تؤسسان كيان الدولة الفرنسية. العلمانية التي تضمن حياد الدولة، وتحمي الفضاء العمومي من سيطرة أشكال التدين، ورفض الطائفية بشكل لا يعترف إلا بالمجموعة الوطنية كطائفة كبرى تضم كل الفرنسيين. ولأنها لم تنجح دائما في ترسيخ هاتين القيمتين، فإن فرنسا لا تمتلك اليوم الأسلحة المناسبة، لمواجهة هذا الإرهاب الداخلي من الجذور.
لقد تغاضت الدولة الفرنسية عن الكثير من المخالفات التي تضرب صميم وحدتها القيمية، داخل المدارس، وفي الأحياء الهامشية، ومن خلال السماح بإقامة مساجد عشوائية، أدارتها في الغالب تيارات إيديولوجية تكره الجمهورية والغرب، وتهاجم القيم الكونية التي تمثلها. هذه حقائق ماثلة على الأرض ويعرفها الجميع، ولاحاجة لليمين للمتطرف أن يحتكر الخطاب حولها. صحفيون تعرضوا للاعتداء، ومنعوا من ممارسة مهامهم في نفس المدينة التي أقام فيها منفذ الاعتداء الهمجي، دون أن تأخذ العدالة مجراها في هذه القضية. هذا بالضبط هو ما يعرف في فرنسا ب‘‘الأجزاء الضائعة من الجمهورية‘‘.
لكن، على النقيض، يشكل فشل سياسة الاندماج مرتعا خصبا لمستقطبي المتطرفين. في ألمانيا والسويد يخضع المهاجرون لدورات تكوينية في الاندماج والتربية على المواطنة، وفيها يتعلمون أن المساواة بين الرجال والنساء في بلدان الإقامة أمر مقدس، وأن رفض الاختلاف على أساس الاختيار الجنسي جريمة يعاقب عليها القانون. يتعلمون أيضا أن القانون فقط هو أعلى سلطة في هذه البلدان، وأن القانون الذي يطبق على الجميع يصادق عليه في البرلمان.
سياسة المدينة فشلت في فرنسا، والمدن تحولات إلى غيتوهات تسيطر فيها الطائفية في سياق يتسم بارتفاع معدلات البطالة. الأرقام تؤكد هذا المعطى، والتفرقة الاجتماعية ‘‘ الأبارتايد‘‘ أصبحت حقيقة.
إذا أرادت فرنسا القضاء على الإرهاب المحلي في أفق منظور، على الطبقة السياسية أن تدع الجدل السياسي جانبا، وتتبنى استراتيجية متعددة الأبعاد لمواجهة ظاهرة معقدة للغاية تحول أبناء الجمهورية، أولئك الذين تربوا في مدارسها، واستفادوا من نظامها الاجتماعي، إلى مقاتلين ضدها.
بقلم: أحمد الشرعي
في هذه الاستراتيجية، الصرامة في احترام مبادئ الجمهورية مع احترام دولة الحق والقانون يجب أن تحتل مكانة ذات أولوية قصوى. كل تساهل لن يؤدي إلا إلى مآسي أخرى قد تكون أكثر وقعا، حيث لن تجدي شجاعة أحدهم كثيرا.