طه لمخير
يخيل إليّ أن الذي يعمل بجد في هذا البلد فريقان: الدرك الملكي والأمن الوطني من جهة وفِي الجهة الأخرى الحركات الإسلاموية.
الأول يطارد مغتصبي النساء والمعتدين عليهن في شوارع المملكة ويقدمهم للقضاء، والثاني يشرعن للاغتصاب وينتصر للمغتصِبين، وفِي النصف منطقة فارغة؛ منطقة الوقاية بالتنوير والتثقيف ومحاربة الظلامية. عجزت قوى المجتمع المدني والأحزاب ليبرالية ويسارية المنشغلة كل الانشغال بحطام السياسة وغنائمها عن شغلها الأساسي الراهن رغم المساعدات المادية التي توفرها لها الدولة للقيام بأدوارها.
في المقابل في الأزمات الاجتماعية نجد أيضا قوى الأمن تحافظ على الاستقرار والنظام العام بينما تقوم عناصر الاسلام السياسي بالنفخ في رماد الفوضى والتحريش بين المحتجين، هنا أيضا تغيب الأحزاب ويغيب المجتمع المدني عن التأطير و التواصل مع الجماهير تاركين الساحة فريسة لعناصر جماعة العدل والإحسان ومتطرفي الجهاديين.
والغريب أن هذه القوى كلها مجتمعة عندما تروعها الجرائم الجنائية في الشارع العام أول ما تطلقه من صرخة تكون نداءات الاستغاثة بالأمن ليلقي القبض على الجناة، وهي هي نفس القوى التي منذ أسبوع ظلت تجلد الذات الأمنية في أحداث جرادة، والغريب أيضا أن أحدا لا يلتفت إلى خلايا داعش النائمة التي تسقطها فيالق الخيام كل شهر وأحيانا كل أسبوع، ماذا كان حال البلد لو أن عين الخيام غفت لحظة؟
وبما أن هذه القوى غير مؤطرة وغير جادة في أداء دورها الاجتماعي والثقافي كما ينبغي وغير مكترثة بالنزول للشارع والعمل الميداني لحماية الناشئة من الفكر الإسلاموي المتطرف مكتفية بالنضال الحنجري والعنتريات الإعلامية وفرقعات العرائض ومناشير الفضاء الأزرق؛ فنحن نطالب المؤسسات الأمنية التي تتقن عملها وتؤدي واجبها أن تأخذ المال المخصص من الدولةلهذه الجمعيات والأحزاب لتخرج لنا الدركي المثقف والأمني صاحب القلم والجندي المحاضر في الدولة المدنية والقناص الذي يجول الأحياء الشعبية ويقيم فيها أياما مفتوحة للكتاب وأنشطة التنوير.
هذه الأيام خرجت علينا الجماعة الصفراء على موقعها بمقال تنظر فيه بوقاحة الأوغاد وصلف المجرمين لأيام الفوضى،أيام يختل فيها النظام العام وتتراخى القبضة الأمنية المحكمة على عناصر القومة وجند الله فيخرجون للشوارع بالأسلحة البيضاء والهراوات ويسطون على أقسام الشرطة ولا يجدون أمامهم من يردعهم ويخمد نيران قومتهم المنشودة.
يعلم الإسلامويون أن سقوط الدولة وشيوع الخراب وانفلات زمام الأمن هو في صالحهم لأنها قوى منظمة على أتم استعداد للقيام بدورها الجهادي في حروب العصابات وتأطير المليشيات المسلحة، وهي قادرة كل القدرة على تجنيد أكثر الأميين غير المؤدلجين في بلادنا في غضون أيام عند غياب الرقابة التي تفرضها الدولة باحترافية ونجاعة مشهودة من طرف الغرب.
الإسلامويون لا يستخدمون لغة الخشب عندما يخاطبون المتلقي لغتهم سهلة ومباشرة يفهمها جل الأميون في حين نجد ندوات اليسار مثلا أو بالأحرى ندوة أو ندوتين تنصب في هذا الأسبوع على ورقات في التعريف بجاك دريدا ونظرية الكتابة والتفكيك عند جاك دريدا وبناء التدلال في تحليلات دريدا أو في فائض القيمة المطلق وفائض القيمة النسبي، فكيف تريد فدرالية اليسار أن تصل إلى الناس إلى المواطن العادي إلى الفراشة وبائعي الخضر إلى أصحاب الحوانيت الشعبية إلى شباب وشابات الدروب في المدن العتيقة بمثل هذه المحاضرات الأكاديمية المتقعرةالتيلايحضرهافيالغالبإلاأعداداهزيلةلاتكادتملأالصفالأمامي من القاعة.
أين فقه البيداغوجيا واستراتيجيات التربية والاتصال مع الطبقات الأكثر محرومية من التعليم والثقافة؟ أين أسلحة القلوب والعاطفة والخيال فنون ومسرح وسينما وموسيقى؟ أين مكتبات الأحياء المتجولة؟ أين البرامج والأفلام والوثائقيات؟ ما هذا الشح في التواصل والخمول المستطاب؟، يؤسفني حقا أن أرى محاضرات لمثقفين وازنين لا يتجاوز عدد الحضور فيها أعداد اليد الواحدة بينماخطبةلإسلاموي موضوع على قوائم الارهاب تغص جنبات المكان بالحاضرين.
لا تنزلوا إلى الشعب محملين بلغة بورجوازية عسيرة على الهضم حتى على المثقفين أنفسهم مقعرة مجردة من أي إثارة وتشويق متخشبة كمضغ المطاط انزلوا وفِي أيديكم الكرم؛ الزيت والزيتون والملح والسكر وملابس العيد كما يفعل الإسلامويون، عندها سيجلسون إليكم وسيستمعون..انشروا فيهم إسلام الكندي والمأمون ودار الحكمة إسلام ابن رشد والفارابي وابن سينا والقاضي عبد الجباربأسلوب سهلميسرتواجهون به أيديولوجية سيد قطب وعنفية عبد السلام ياسين وهمجية الإخوان المسلمين ووحشية الحنابلة..
انزلوا واحشدوا في حملاتكم طاقات الشباب وبَأس رجال الأعمال ودعم المخزن ولكن لا تنسوا تقاليد المجتمع المغربي التي تلزم الضيف ألا يأتي بيديه فارغتين..نشر العلم والمعرفة والتنوير أيضا رشوة ومداهنة نفسية وفن الاستمالة وحسن التبعل الثقافي..اغمسوا لقمتكم الثقافية بالطرب والفرح، بإطعام الفقراء"بجبانيات" الحساء في المساءات الشعبية بالعمل الخيري في القرى والمداشر بالالتفات لليتامى والأرامل والمشردين، حينها سيحبون الفكرة وصاحب الفكرة وسينخرطون ويتعلمون.
هذا كله ينبغي أن تصحبه قناعة راسخة بأن ما نواجهه هو في جوهره مشكلة ثيولوجيا،وإذا كُنتُم غير قادرين على استيعاب هذه النقطة فلا تذهبوا في وصف الحلول لأنكم تجعلون الواقع أكثر صعوبة خصوصا عندما تخلقون الانطباع الخاطيء بأن البرامج الاقتصادية والسياسية والسوسيولوجية قادرة على حل الأزمة وأن الديموقراطية التامة هي الحل. ببساطة لا يمكنها.
المشكلة ينبغي أن تعالج في جوهر وحقيقة مستواها الذي تقبع فيه..الديموقراطية في وضعنا الراهن هي سلاح في يد الإسلاموي لاكتساب مزيد من السلط وكلما اكتسب الإسلاموي نفوذا على حساب الدولة والمؤسسة الملكية انتكسنا إلى الوراء قرونا سحيقة واتسخت عقولنا وأعمالنا كما تتسخ شوارعنا كل يوم أكثر عن الذي سبقه منذ تولى حزب الإسلامويين شؤون الحكومة.
الإسلامويون لا يهتمون بجمال العمران وأسلوب الحياة وتمام النظام وتقدير المدنية لأنهم ببساطة لا يرون الدنيا أهلا للتعمير لأنها دار عبور، والعابر لا يقيم وزنا للمكان الذي يعبر منه وهو من ثم لا يقيم وزنا للبحث العلمي الذي به تعمر دار العبور ولا بالمختبرات التي تنتج الأدوية للعابرين ولا بالفلسفة التي تحيي عقول العابرين ولا بالآداب ولا بالفنون..وتبقى عندهم منتجات "الكفار"غنائم سخرها الله لهم.
المشكلة في الثيولوجيا منذ أغلق باب الاجتهاد على يد الغزالي منذ طرد المعتزلة من المدارس وحرمت الفلسفة في مؤسسات التعليم الوقفية وأغلق جعفر المتوكل دار الحكمة ودمرت مكتبة قرطبة العامرة التي كانت تضم أربعمائة ألف مجلد أكثر حينها من كتب ممالك أوروبا مجتمعة، وجلد الكندي ستون جلدة في الساحة العامة وحرقت كتب ابن رشد وأعدم الحلاج..وعندما حل القرن الرابع عشر لم يبق في المسلمين رجل يستحق أن يطلق عليه هذا الوصف إلا المؤرخ ابن خلدون.
يكفي أن نعلم أن اسبانيا وحدها تترجم في العام الواحد ما لم يترجمه المسلمون منذ ألف عام ولا زالت كلية الشريعة في السعودية تشكك في صعود الانسان إلى القمر وتؤكد أن الأرض مسطحة ولازال أعضاء الجماعة الصفراء كل يوم يتداولون أحلام القومة.
ولله الأمر من قبل ومن بعد