كلما ارتفع في المجتمع نقاش من هذا النوع إلا وأحسسنا نوع الحدة التي يكتسيها النقاش، وفهمنا أن النقاشات المجتمعية المرتبطة بمعيش الناس اليومي والأساسي هي التي تحرك كل هذا التفاعل بين المغاربة أكثر مما تحركه نقاشات السياسة أو الثقافة أو الاقتصاد أو ماإليه.
الأمر يتعلق بنقاش الإرث والتعصيب الذي قسم مجددا المغرب إلى « فسطاطين » : واحد يتصور نفسه حداثيا يقول إنه من السهولة بماكان أن نقول ابتداء من الغد في الصباح إن المساواة في الإرث ممكنة التحقيق دون أي إشكال، والثاني يتصور نفسه منافحا عن الشريعة يقول إن المساس بهذا الأمر القرآني الواضح دونه الموت والنزال وبقية المفردات الآتية من المسلسلات التاريخية التي كان يدعمها المال الخليجي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى أن أنتجت لنا ماأنتجته من أعطاب فكرية ومن جيل مشروخ فعلا ، قبل أن يفهم نفس المال الخليجي أن هذا الدعم أدى العكس من المطلوب الأول منه وأن جحافل من المتطرفين - إن فعليا أو فكريا - قد احتلت المشهد العام لتابوتنا الممتد من الماء إلى الماء ولم تعد ترضى أن تترك لمختلف عنها فيه مكانا أو موطئ قدم
حدة النقاش الجديد نابعة، مثل نقاشات الحرية الفردية أو نقاشات المدونة في وقت سابق، من كونه يرتبط بمعيش الناس، وبما ترسخ في أذهانهم منذ قرون عديدة. لذلك يبتسم المتتبع الهادى لفورة وحماس بعض أصدقائنا من حاملي لواء الحداثة الذين يقولون إنه من السهل أن يقطع المغرب فورا وحالا والآن ودون أي تفكير، مع الوضع الحالي وأن ينتصر لحق المرأة في المساواة، خصوصا وأن الوقت تغير وأن الأزمنة تبدلت وأن أبواب الاجتهاد لم تغلق إلا في سنوات الانحطاط الفكري لدى المسلمين، وأنه قد حان الأوان لأجل مقاربة جديدة تعيد لمفهوم القوامة ككل معناه الحديث النابع مما هو متحقق على أرض الواقع، لا بناء على ماعاشه أجداد بعيدون لا نعرف عن حياتهم إلا مانقلته لنا كتب التاريخ بشكل غير مضبوط، وطبعا هم لا يعرفون عن حياتنا أي شيء، ولم يكن خيالهم المحدود والبسيط لكي يتصور أن الإنسانية ستصل إلى كل هذا القدر من العلم والمعرفة والسهولة في التواصل والتقدم وبقية مشاهد الإعجاز التكنولوجي التي لا تكف يوميا عن إبهار من يتتبع بعض الشيء تطوراتها
القول هكذا يبدو جد معقول ومنطقي ولا يمكن لإنسان سوي العقل، سليم التفكير أن يعارضه، بل بالعكس يفترض في من توفرت فيه صفات العقل والسواء هاته أن ينتصر لمبدأ المساواة وألا يناقشه لأنه محسوم سلفا، اقتنعت به أمم الحضارة وفهمت أنه الملاذ الوحيد لها للخروج من تخلفها الفارط، سوى أننا نعاني من مشكل صغير في هاته النقطة بالتحديد…
هو في الحقيقة ليس صغيرا إلى الحد الذي قد نتصوره، هو مشكل كبير للغاية ومعشش معنا في دواخل أذهاننا: إسمه نمط تفكيرنا وكيفية الاشتغال على نمط التفكير الجماعي هذا لكي يشرع في تقبل مثل هاته النقاشات دون أن يلجأ إلى حمل سيفه البتار والتلويح به في كل الاتجاهات، وتهديدنا جميعا أننا داخلون إلى سقر وما أدراك ماسقر
كيف السبيل إلى طرح نقاش مجتمعي مثل نقاش الحرية الفردية أو نقاش الإرث والمساواة أو نقاش الاختلاف الجنسي أو أي نقاش حامي وساخن من هاته النقاشات دون التورط في حالة من الحالتين: إما إدارة الظهر للناس ولدينهم وتبني الكفر والإلحاد وما إليه، وإما تهديد الناس بجهنم والعذاب ووديان الويل، ثم المرور إلى تطبيق الحد عليهم باعتبارهم مرتدين والانتهاء من الموضوع ككل بهاته الطريقة الرعناء وغير العاقلة على الإطلاق
من يريد مصلحة هذا المجتمع عليه فعلا أن يبحث لنا عن طريقة التوفيق هاته بين المسألتين، فلانحن نريد التنكر لما أسس ثقافتنا وتربينا الأصلية الأولى، ولا نحن نريد البقاء على قارعة الطريق غير قادرين على مواكبة العصر، محتفظين في دواخلنا بحريمنا وإمائنا وماملكت اليمين، ومعتقدين أن النساء فعلا أقل من الرجال رغم أن كل الظواهر ومعها كل البواطن تؤكد العكس
بداية النقاش السليم طرح السؤال هكذا، أما الانتصار بمنطق الجهالة العمياء لرأي واحد ووصف الرأي الآخر بشتى الأوصاف، فأمر لايتقدم بنا كثيرا إلى الأمام
هو في الحقيقة يعيدنا إلى الوراء ويذكرنا أننا جميعا: أدعياء حداثة وأدعياء محافظة لازلنا في قرارة أنفسنا نحفظ عن ظهر قلب البيت الشعري الغريب « ألا لايجهلن أحد علينا، فنجهل فوق الجاهلينا »
والمشكلة الأعظم هي أننا لانحفظه فقط، بل نطبق هذا الجهل ونؤمن به أشد الإيمان.
ترانا غادرنا الجاهلية فعلا في يوم من الأيام؟
بقلم: المختار لغزيوي