تبدأ عمليا يومه الخميس محاكمة توفيق بوعشرين مدير نشر يومية “أخبار اليوم” . هي محاكمة رافقها الجدل القانوني والسياسي والاعلامي ، واختلط معها الحابل بالنابل بعد أن غدت قضية رأي عام وطني ودولي. والسبب صفة المشتبه به أولا ككاتب رأي اختار أن يسبح عكس التيار ويدلي بوجهة نظره في تقلبات الحياة السياسية والاجتماعية التي عاشتها وتعيشها المملكة طيلة السنوات الأخيرة، وثانيا بسبب التهم الثقيلة التي تتابعه بها النيابة العامة.
كان لخبر اعتقال توفيق بوعشرين وقع الصدمة على كل ممتهني الصحافة، فلا أحد من ممتهني مهنة المتاعب تخيل يوما أن يتم اعتقال صحافي وسلب الحرية بتلك الطريقة المعلومة، ولذلك كانت قيادة نقابة الصحافيين أول من تحرك لمعرفة الأسباب الكامنة وراء ذلك الإجراء الاستثنائي، قبل أن يوضح الوكيل العام للملك أن الأمر يتعلق بجناية علا علاقة لها بقانون الصحافة والنشر وأنها جريمة حق عام بعيار ثقيل هو “الاتجار في البشر”.
صدمة الجسم الصحافي بالمتابعة هي نفسها صدمة الرأي العام المحلي والعالمي، لكن المواقف منها تباينت بين من ربط نازلة الحال وصك الاتهام بمهنة المشتبه به وقلمه السياسي، وبين من اختار التموقع وفق قناعاته إلى جانب “ضحاياه”. لكن مالم يكن منتظرا أن يشيطن كل طرف الآخر وادعاء امتلاك الحقيقة التي لن تكون جلية إلا بعد مناقشة الملف بشكليات إجراءاته ومضمون الأفعال الواردة فيه وعرض الأدلة وقول هيئة المحكمة القول الفصل فيها، وايضا استيفاء جميع درجات التقاضي و اكتساب الحكم قوة الشيء المقضي به.
لا يعني ذلك حرمان كل طرف من التعبير عن قناعاته ، لكن لابد من الثقة في مؤسسة القضاء الجالس منه والواقف أيضا، فدولة الحق والقانون التي يفترض أننا نعيش في كنفها تفرض علينا احترام هيبة سلطة القضاء، والحرص على إعلاء كلمة قوة القانون وليس قانون القوة سواء من قبل مؤسسات الدولة ذاتها أو الأفراد .
وبعيدا عن تصريحات بعض أعضاء هيئة دفاع المشتبه به التي يفترض فيها تسليط الضوء على احترام مقتضيات المسطرة الجنائية وبعدها مناقشة موضوع القضية كما تقتضي ذلك أبسط أبجديات مهنة أصحاب البذلة السوداء الموشحة بقليل من البياض. فإن الدستور ضرب به الطرفان عرض الحائط وهو الذي حرص في باب الحريات الأساسية التأكيد على أن “قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان” وأنه “يُحظَر كل تحريض على العنصرية أو الكراهية أو العنف”، لكن حسب الفصل 23 نفسه أنه ” لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون. الاعتقال التعسفي أو السري والاختفاء القسري، من أخطر الجرائم، وتعرض مقترفيها لأقسى العقوبات”.
ان الحريات الاساسية لأي مواطن لها مكانة سامية بحكم مكانتها في الهندسة الدستورية بل ولها حجيتها القانونية باعتبارها جزءا أساسيا من قانون الإجراءات أو”قانون الابرياء”كما يطلق عليه فقهاء القانون ، وهو ما انتهكه كل الأطراف سواء ممن اصطفوا مع المشتبه به أو اختاروا الوقوف مع “ضحاياها “، ولذلك فبدل الدفاع عن قناعاتهم اختار كل طرف اما لعب دور “الغراق” باسم الدفاع عن الحق أو التخفي وراء ادعاء “المؤامرة” لتنزيه مشتبه به من أفعال لا يزال بريئا منها حتى يدان بحكم قضائي نهائي. وإلا جاز لأي كان سلب حق امتلاك العنف المشروع من الدولة وأيضا الحلول محل سلطة القضاء للفصل في النوازل، فيسود بذلك قانون الغاب بمسميات قد تكون مشروعة لكن بدون شرعية.
ولعل ذلك ما فطنت اليه النقابة الوطنية للصحافة المغربية التي لم تترد في التأكيد أنها ” تفاجأت بحجم التجاوزات الأخلاقية التي ميزت كثيرا من المعالجات الإعلامية واهتمامات شبكات التواصل الاجتماعي حيث تجلت العديد من مظاهر عدم احترام الحق في الصورة والتشهير والقذف والإهانة في حق أطراف القضية، خصوصا لكثير من الزميلات الصحافيات اللائي تقدمن بشكاياتهن لدى القضاء من خلال عدم احترام المعطيات الشخصية للمشتكيات وعبر نشر صورهن والمس بكرامتهن وأيضا فيما يتعلق بالمس بقرينة البراء ة بالنسبة للزميل توفيق بوعشرين”، ولم تتردد النقابة ذاتها الإشارة إلى أنه ” حرصا منها على ضمان حقوق جميع الأطراف اعتبرت تلك التصرفات تجاوزات أخلاقية ومهنية ماسة بقيم الحيادية وضمان حقوق الأشخاص ودعت إلى التوقف الفوري عن ذلك والابتعاد عن كل ما من شأنه المساس بحقوق أطراف القضية والامتثال لروح العدالة التي تفرض احترام السلطة القضائية وهي تنظر فيها”.
لذلك فمهما كانت قناعات الأطراف، فإنه يمكن التعبير بعيدا عن تلك التجاوزات و دون المس بحق الأطراف الأخرى في التعبير بدورها عن قناعاتها. وإلا فذات الداء الذي ينخر السياسة سيزيد من تعميق جراح أزمة القيم في المجتمع نفسه. ولهذا لا بد من الحرص على حفظ حق الضحايا المفترضين في صون كرامتهم وعدم وصمهم، وبالمقابل لا مجال لتصفية الأحقاد مع المشتبه به في القضية مهما كانت المؤاخذات على شخصه ولا المواقف من قلمه ، ولا يقبل حتى التشفي فيه، ففي مثل هذه النوازل لا يمكن للمرء إلا قول “اللهم لا شماتة”
أوسي موح لحسن