لـمّا كان سيدنا (عثمان) رضي الله عنه، يسيّر أمورَ المسلمين بنفسه، ويخشى الله في تدبير شؤونهم، ويحرص على أموالهم تُنفَق في ما يرضي الله، ويُسعِد عباد الله؛ واتسعتْ رقعةُ دولة الإسلام، بفضل فتوحات (عثمان)، فكان الكل راضيا عنه، ويدعو له، ولا أحدَ يخالف رأيَه؛ كان الرجل عادلا، وفاضلا، وكريمًا، لا شكّ في ذلك.. كان (عثمان) أمَويًا يحبّ الأمويين أهلَه، ويفضّلهم على غيرهم، إلى درجة أنه عيّن في مناصبَ من كان النبي صلّى الله عليه وسلّم غاضبا منه أو نزل فيه قرآنٌ صريح يذمُّه، ويحذّر المسلمين منه، فنفَذُوا إلى الخلافة، واستولوا على السلطة، وتحكّموا في ثروات المسلمين، وكانوا يوقّعون بخاتَم (عثمان) ما ليس لـ(عثمان) علمٌ به من شؤون الدولة.. أنا هنا سيّدي القارئ أكتبُ، وأمامي عشرات المراجع، أعتمدها لعربٍ وعجمٍ، ومن أهمّها كتابُ [الفتنة الكبرى] لـ(طهَ حُسين) ومجلّدان لـ(جرجي زيدان) وآخرين كثُر..
بدأت الاختلالاتُ، وبرز الفساد، وفشى الظّلم الاجتماعي، بسبب سيطرة رجُلين وهما [الحَكم] وابنه [مروان]، وقد لقّبهما النبي الكريم: [الوزَغ ابن الوزَغ]، فصارا يتحكّمان في (بيت المال)، وفي أملاك الدولة بلا حسيب أو رقيب، مثْل [بنكيران] وخلفه [العثماني] اليوم في بلادنا.. بدأت الاضطراباتُ، والاحتجاجات نتيجة الظلم، والشطط، فطُلِب من (عثمان) طرْد هؤلاء من سلطة الخلافة، فرفض؛ وتفاقمت المظالمُ، وتنوّعت واستشرتْ في البلاد.. قام [الحَكَمُ] وابنُه [مروان] بتملُّك أرض [فَدَك] التي كانت مِلْكًا للنبي الكريم، ومُنِعَت منها سيّدتُنا [فاطمة] عليها السلام، فماتت وهي غاضبة بسبب ذلك.. ثم وُهِبَ خُمُسُ أرض شمال إفريقيا لأموي كان النبي قد أهدَر دَمه، وبسببه سَيُقْتَل (عثمانُ).. في ميدان التجارة، كان يُمنَع على الناس دخولُ السوق قبْل عملاء، وتجار، وسماسرة [الحَكم] وابنه، حتى إذا اشتروا، وباعوا، واختاروا، سُمِح للأمّة بدخول السوق، وهو ما يفعله اليوم أزلامُ [البيجدي] في أملاك، وأموال الدولة لصالح النواب، وخوارج سنوات الرصاص.
صار [الحَكَمُ] وابنُه [مروان] يعيّنان الأمويين في مناصب عليا مثل [الوليد بن عُقْبَة، وقشَيْر]، وكلاهما نزلتْ فيه آيةٌ تذمُّه تماما كما يُعيّن [البيجدي] اليوم، أتباعَه في مناصب عليا كلّ أسبوع منذ ست سنوات متتالية.. بعدها، بدأ [الحكَمُ] وابنُه إصلاحات تشْبِه إصلاحات [بنكيران والعثماني]، كيف ذلك؟ نَقصَا من أُعطيات زوجات رسول الله صلّى الله عليه وسلم من بيت المال؛ ومنَعا كُتّابَ الوحي من معاشهم؛ وكذلك المجاهدين الفقراء؛ واشتدّ الاحتقانُ، وتعالى السخطُ، وعدمُ الرِّضا، حتى لإنّ [عائشة] رضي الله عنها خرجتْ وهي تصرُخ قائلةً في حق [عثمان]: [اقتُلوا نَعْثَلاً فقد كفَر، لقد أبْلى سُنّةَ رسول الله قبْل أن يَبْلَى قميصُه].. أراد [عثمان] أن يُهدِّئ من روْع الناس من على شُرفَة بيتِه، فخاطبه أحدُهم قائلا: [والله يا نَعْثَل، لأقتلنّكَ، ولأحمِلنّك على قلُوص (أي ناقة) جَرْباء].. كان كاتبُ الوحي [عبد الله بن مسعود] واليًا على [الكوفة]؛ فجاءه قرارُ الإعفاء، وكان محبوبا بسبب صُحبتِه لرسول الله؛ فامتطى ناقتَه بعدما ودّع الجميع في مشهد مؤثّر، وتوجّه إلى [المدينة المنوّرة]؛ فدخل المسجد، و[عثمان] يخطب؛ فلمّا رأى [ابن مسعود] يدخل، سكتَ [عثمان] ثم قال للمصلّين: [عفوًا، لقد حلّت بنا الآن (دُوَّيْبَة سُوء) يقصد (ابن مسعود)؛ فردّ هذا الأخيرُ قائلاً: [والله ما أنا بِدُوَّيْبة سُوء؛ لقد شهدْت [بدرًا] مع رسول الله، و[أُحُدًا]، فما تخلّفتُ ولا فررتُ].. نزلتْ هذه الكلمات على [عثمان] نزولَ الصاعقة، لأن [عثمان] تخلّفَ يوم (بدْرٍ) وفرّ يوم (أُحدٍ)، اُنظر (صحيح البخاري)؛ فما كان من [مروان بن الحكَم] إلا رفعَه فوق كتفِه، وضربَ به الأرضَ، فكُسِّرت ضلوعُه، وظل يشتكي من الألم حتى مات..
حُجِبَ عن [ابن مسعود] تقاعدُه، ومعاشُه من بيت المال، وقُبيْل وفاتِه زاره [عثمانُ] طالبا الصّفح، وآتِيًا إياه بكل معاشه؛ فرفضه [ابن مسعود] قائلا: [حَرَمْتَني منه يوم كنتُ في أمسّ الحاجة إليه؛ أمّا الآن فلا حاجة لي به].. قيل لـ(ابن مسعود): [أَقِمْ معنا ولا تخرجْ؛ ونحن نمنع أن يصل إليك شيءٌ تكرهه منه] فردّ (ابن مسعود) قائلا: [إن له عليَّ الطاعة، وإنها ستكون فتنة، ولا أحبُّ أن أكون أوّل من يفتح أبوابَها.] وبعد أيام، فاضت روحُه رضي الله عنه وأرضاه، ولعن الله من أوصل (عثمانَ) إلى هذه الفتنة.. قال [عثمانُ] من على شرفة بيته المحاصَر: [لماذا تريدون منّي أن أخلعَ قميصًا قمصانِياهُ الله؛ فوالله لو قتلتمُوني، لـمَا صلّيتم جماعةً بعْديَ أبدًا.] وصدق رضي الله عنه، وقُتِل بسبب الأمويين، وفرّ [الحكَمُ] وابنُه [الوليد]، وما زالتِ الأمّةُ تعاني من هذه الفتنة إلى يومنا بسبب تمزُّق صفوف المسلمين، وبروز الفرق والملَل والنّحَل، وهو ما نعانيه من فرقَة [الإخوان] اليوم في بلادنا، وتَعيثُ فسادًا في أموال، وخيرات الوطن، وتؤزّم الأوضاعَ بما تسمّيه (إصلاحا)، وتبذّر ثروات البلاد بما تسمّيه قانونًا، وتغرس أزلامَها في مناصبَ عليا، وتهدّد استقرارَ المجتمع، وتعود بنا إلى ماضٍ أسود، سواد ليلٍ بهيم، يا لُطْف الله!
صاحب المقال : فارس محمد