طه لمخير
تقيأت جماعة العدل والإحسان أمس الاثنين بيانا من بياناتها التي تروج فيها لمظلوميتها الأبدية وتتباكى على الديموقراطية التي يراها مؤسس الجماعة رجسا من عمل الشيطان، وهم إذ ينتحلون السلم فهم أهل حرب وطلابها وإذ يُقرفون الدولة بالتهم فهم محل الشبهة ومكانها، وها هي الجماعة لطول ما عاشت خارج القانون استبطنت أخلاق المجرمين والهجامين فلا تحمل لقوانين البلاد وقضاءها إلا ما يحمله الهارب من العدالة، وظنت أن أجواء الانفتاح الديموقراطي الذي تشهده البلاد سوف يجعلها تمارس مجونها السياسي وتفتح بيوتات أعضاءها مواخير لمعاقرة خمرة القومة بين الإخوة والأخوات الحالمين بغد الإرهاب غد العدل الإحسان.
ويبدو أنهم يفترضون في ذواتهم المتضخمة أنهم يملكون أوراقا للضغط على الدولة سيجعل الأخيرة تعطل مساطر القضاء وتعقد معهم الصفقات كتفا لكتف خوفا من هديرهم الساري، أو أن رمانة الميزان في استقرار البلد وانتظام شؤونه تقف على إشارة من أصبع مجلس الإرشاد فإذا حركوا أصبعهم يميناً أو يسارا وقعت سماء المغرب على أرضه وانحط طوله على عرضه.
أو أنهم من منظومة الجريمة والعقاب في قلعة محصنة لا تطالهم مساءلة أو حساب، وأن مشجب المعارضة و"المُعاهرة" الذي تدعيه سيجعل أعضاءها المرجفين في الناس بباطل الأخبار المصنوعة والإشاعات الملفقة في منجاة عن يد العدالة. الفضاء الأزرق له أنياب وللدولة أن تكسرها إذا تهددت السلم العام.
وإلا فما الفرق بين الهجام "بنمسعود" والهجام "سريويلة" إلا في وسائل الترويع وأساليب الابتزاز، "سريويلة" أيضا يرى الدولة ظالمة لأنها منعته حريته في قطع الطريق وترويع الآمنين، لكن الفرق أن سريويلة فاته أن يؤسس جماعة تدافع عن أمثاله من الهجامين وفتوات الدروب والأزقة وتصدر بيانات التنديد عندما تطال أعضاءها السفلة يد العدالة وتعصر حويصلتها قبضة القضاء.
فهذا "سريويلة" الشعب وهذا "سريويلة" القومة. وعندما يصبح "سريويلة" سروالا محترما عندها تصبح الجماعة حزبا محترما.
والواقع أن معركة جماعة ياسين ليست مع النظام ولكن مع العصر نفسه وقيمه التي تبناها المجتمع، فالجماعة لم يؤسسها الهالك عبد السلام ياسين لأنه ينتمي لأحد التيارات المعاصرة يمينية أو يساريةأو حبا في الديموقراطية ومبادئها الدوابية كما يسميها بصلف وعجرفة فارغة، إنما أسسها لقلب نظام الحكم وإقامة نظام ثيوقراطي شمولي يقمع الحريات ويفني بذار التعددية ويقيم محاكم التفتيش على عقائد الناس وطرائق لباسهم ويغلق الصحف والجرائد المعارضة ويهدم المسارح ودور السينما واستديوهات الغناء ويعلق رؤوس المخالفين ويقطع الأيادي ويرجم الرؤوس ويمنع الناس من السباحة على شط البحر إلا تحت شروطهم وضوابطهم. على هذه الأرض تقف الجماعة وإلى تلك الغاية تمضي.
إن الجماعة تؤمن بأنها عندما تمسك الحكم ستكون نهاية التاريخ (بمنظور إسلاموي) منظور الأحادية العاتية والقوامة على العقل وخياله المبدع، منظور الوصاية التامة العامة المطبقة على حركات بني آدم وسكناتهم، ستنتهي النظم والأفكار، لا حاجة إلى الديمقراطية "الدوابية" حينها، لأن نظام "الخلافة الثانية" سيمتد إلى نهاية العالم دون انقطاع، شمولية مستبدة إلى يوم الحشر..جند الله يتوعدون وأختام نقابة تبصم بالعشرة.
ومن يشهد للمومس إلا قوادة لها أختام زور تطبع بها شهادات الشرف السياسي.
إنها نظرية دورة الحضارة والدول التي سرقها الشيخ الحالم من الفيلسوف ابن خلدون الذي كان يتحدث بالخصوص عن نشأت وسقوط الدول الإسلامية وكانت نظريته أصيلة وعامة لم تنهكها الأدلجة والتحكم والنرجسية الطامحة إلى الحكم، لكن ياسين عندما يتحدث عن دولته لا يجري عليها قوانين تلك النظرية وحتمياتها التاريخية حين يصوغ "براهينه".
عند ياسين قيام دولته الخلافية هو إعلان "لنهاية التاريخ" في نسخته الإسلاموية، ولهذا نجده معجبا ببعض فلاسفة التاريخ الغربيين الذين تنبأوا منهم بسقوط الغرب لأنها توافق نظريته في دولته الخلافية التي ستنشأ على أنقاض الحضارة الغربية، فنجده يستشهد بكتاب مثلصمويل هنتينجتون وأوصولد سبينغلر وأرنولد توينبي وكلهم تتناغم تنبؤاتهم مع وجهة نظره الملفقة.
وكل ما كان يفعله أنه يسترزق من النقد الذاتي الذي يوجهه الغربيون لأنفسهم فيدرجه في سياق يبشرفيه بدولته الإسلامية المنشودة. ومات ياسين وماتت النبوءة وأظلم المنهاج وترك ابن خلدون المقدمة وترك ياسين لنا المؤخرة..جماعة من شراميط مهلهلة تنتظر موعدها مع التاريخ ودورة الدول.
ولهذا لا ينبغي أن يغرنا خطاب الواجهة المزيف إذ لا يمكن فصل الأيديولوجيا عن دوافع الجماعة النفسية وتفاعلاتها السياسية، كل الأعمال لها بواعث، وبواعث الجماعة في ما تطعمه أفراخها من جيف مخ المرشد الذي لا زال ساخنا يرتعش..كل يوم تقتات بِنَهَم لبدنها الحركي من اللحم النيء المكوم الذي تركه الشيخ حتى وإن دود وسوس وأنتن وغدى كرمم المقابر البالية..سموم وأمراض.
إن المدعو بنمسعود لابد أن تطاله يد القضاء فلا حصانة لمجرم يتهور بمصائر الناس وأمنهم ويروج صورا لضحايا الخراب السوري على أنها لمواطنين في جرادة، وكونه أستاذ في الفيزياء لا يعفيه مما أصاب من جناية آثمة. الظواهري نفسه دكتور في الطب. فكم من فيزيائي وكيميائي يصنع للقاعدة القنابل والعبوات الناسفة التي تحشو بها أجساد الانتحاريين وترسلهم إلى الأسواق الآهلة والمدن المطمئنة لينشروا فيها الموت والآلام.
"أسرتي جنتي" ولتذهب أسر الناس إلى الجحيم، أضاجع ملء شهوتي أضحك ملء فمي آكل حشو بطني ثم أصدر بياناتي الغاضبة بدمي ودموعي وابتساماتي..أحرض الناس على أوطانهم وأغلى ما يملكون..أشعل فتائل اللهب وأتوارى لأنظر ما يفعلون..و أقول "أسرتي جنتي"..
ألعن لهم القضاء والقدر والبوليس والنهر والبحر والشجر..وأعود "لأسرتيجنتي" أحضنها في مهاوي اللذة ومستقر الضِّراب والنشوة.. منتصبا كثور الحلبة يغزو القلعة المقدسة ثم أستيقظ صباحا من نجاستي إلى طهر النضال وسمو الجهاد.. تمام السفالة وكمال الخسة.. تنوير التنوير.
إثبات الذات المعارضة لا يتم إلا بالتعريض بالآخر؛ وصمه بالأوصاف المنفرة إغراقه بالتهم الجاهزة والأحكام المسبقة وإبراز الذات في أسمال الاضطهاد ورسوم النضال؛ عندها يتعاطف الناس مع قضيتك حتى وإن كانت في صميم صميمها همجية متمكنة وداء مزمنا.
ابتز نفسياتهم المحطمة خاطب فيهم لغة الجوع لغة البطون الخاوية واضرب بهم في مبتغاك.. راوغ الأحداث والأزمات اليومية بمنطق المؤامرة وحماسة العدمية ولعنة السماء واخلط الأوراق بعضها ببعض، ثم أوحلهم من طرف خفي أنك تملك مفتاح الخلاص سيصدقونك وهم في عرام اليأس.. وسيتعاطفون وسينضم بعضهم.. لكن غدك غد الخراب غد الأغلال غد الجباه العريضة.. نعرف لونه وعندنا منه ألف صورة تذكارية..لكن هيهات فلا أحد فيكم يملك بَأْس البندقية.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.