في الفلسفة الحديثة هناك فيلسوفان شهيران ناقشا [النّفعية]، أحدهما [بَنْتام] والآخر [جون استيوارت ميل]؛ فما هو رأي هذا وما هو رأي ذاك يا ترى؟ [بانتام: 1748 ــ 1832]: يرى هذا الفيلسوف، أنّ مبدأ الأخلاق هو المنفعة؛ والمنفعة علاقة بين الذات والموضوع، وهي علّة اللذة، لا اللذة نفسها.. غايتُها تحقيق خير الفرد والجماعة، ويستند مبدأ المنفعة إلى حقيقتين: الأولى ذاتية وهي القول: إن تقدير سعادة الفرد يرجع إلى الفرد نفسه.. والثانية موضوعية، وهي القول إن الناس يشعرون في الشروط نفسها بلذة واحدة.. ومن أجل معرفة اللذات التي يجب تفضيلُها على غيرها، وضع [بنْتام] حسابًا سمِّي بحساب اللذات، وهو ما يجعل اللذة تابعة لسبعة أبعاد؛ الشدة؛ والمدة؛ والوثوق؛ والقرب؛ والامتداد؛ والخصب؛ والصفاء؛ فكلّما كانت اللذة أشد وأصفى وأخصب، ومدّتها أطول، وعدد المشتركين فيها أكبر، والحصول عليها أوكد وأقرب، كان تفضيلها على غيرها أنفع.. وهذه هي أخلاق النواب والمستشارين في بلادنا، وهذه هي حقيقتهم الدفينة، وكلّما كانت المنافع أكثر، كانت لذتهم أكبر.. و[بانتام] يأخذ بما أسماه [مبدأ الذاتية]، وهو إشباع المصالح الخاصة للفرد، ويمكن حساب الأخلاقية حسابا رياضيا بالموازنة بين اللذة والألم، مما جعل هذا الفيلسوف من أبرز المدافعين عن المجتمع الرأسمالي المتوحّش.. وأنا اخترتُه ليكون فيلسوف البرلمانيين النفعيين المتوحّشين في بلادنا..
لكنْ ماذا عن [جون استيوارت ميل: 1803 ــ 1873]؟ هذا الفيلسوف يقول: [إن السعادة مجموع من اللذات المحدَّدة الكمّية، والكيفية؛ وإن الأخلاق النفعية يجب أن تُبْنى على التجربة؛ وهذه التجربة تثبت لنا أن جميع الناس يبحثون عن منفعتهم، أو عن أكبر قسط ممكن من سعادتهم (مثل البرلمانيين الذين بالإضافة إلى رواتبهم، فإنهم يضيفون إليها تعدُّد التعويضات، وتنوُّع الامتيازات، والآن يكافحون من أجل التقاعد)؛ والعقلاء يقول [ميل]، يفضّلون اللذات الشريفة على اللذات الخسيسة] (كتلك التي يجتمع النواب من أجل الحصول عليها، تساندهم في ذلك حكومة خسيسة)؛ فإذا قيل لهؤلاء العقلاء: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، قالوا: (خير للإنسان أن يكون عاقلا ساخطًا، أو عالمًا شقيا، من أن يكون خنزيرا راضيا أو جاهلا سعيدا)؛ ومعنى ذلك، أن [استيوارت ميل] يقدّم مفهوم المنفعة العامة على مفهوم المنفعة الخاصة التي تلهث وراءها الزّمرةُ الذئبية في قبة البرلمان ببلادنا؛ ويستنبط [ميل] من هذه المقدمات كلها فلسفةً أخلاقية، تُعْلي قيمة الفضائل المجردة، ولكن أنّى للجهلاء والناهمين أن يفهموا ذلك، و[هيهات للحمار أن يشتمّ القرفة الطيبة، بل هو يشتم فقط رائحة التبن، والنخالة]..
وجملة القول، إن مذهب المنفعة يجعل تحقيق المنفعة مبدأً، وتوفير أكبر قسْط من السعادة قاعدةً، والاتفاق بين المنفعة الفردية، والمنفعة العامة، غايةً.. فالأفعال الصالحة عند النفعيين، هي التي توصِل إلى السعادة؛ والأفعال السيئة (مثل أفعال النفعيين في برلماننا) هي التي توصِل إلى الشقاء (والشقاء الذي يعانيه شعبُنا بسبب حكومة التجار، وبرلمان النفعيين المتوحّشين، لخير دليل على صدْق النظرية)؛ ومعنى السعادة اللذة الخالية من الألم، ومعنى الشقاء الألم الخالي من اللذة، والسعادة، والمنفعة متّحدتان ذاتًا.. هذه بإيجاز غير مُخلٍّ (النفعية) عند كلٍّ من [بانتام] و[استيوارت ميل]، وقد ساعدنا سلوك نواب الوطنية الزائفة المدافعين عن التقاعد بعد دفاعهم عن تعدد التعويضات، كل هذا ساعدنا على فهم فلسفة كلٍّ من [بانتام وميل] (وإنه والله لخيرٌ لك ألف مرة، أن تكون [سقراطا] جائعًا، من أن تعيش خنزيرًا شبعانًا..).. هذا هو الواقع أي والله!
وقف برلماني في القبة وقال بصوت جَهْوري: [تقاعُد البرلماني سيبقى أحبَّ من أحب وكره من كره؛ فالقانون هو الذي أعطاه ذلك الحق!].. ونحن نقول له بصوت خافت: كلاّ! لن يكون لك ذلك في دولة الحق؛ فذاك القانون يجب أن يُنْسَخ بقانون أكثر عدلاً وإنصافًا؛ فالشعب الذي أدخلك القبّة، هو نفسه الشعب الذي سيخلعك منها كما يُخلع الضرسُ المريض عند خلاّع الأسنان.. ودون أن أحلف أيها البرلماني الحلاّف الهمّاز، أنك ستُضرب على قفاك، وتُطرد من القبّة لأنّ أمّة (محمّد) عليه السلام، ما اجتمعتْ على باطل، ولا نامت على ضَيْم.. فثورة الملك والشعب قادمة، وسيفاجئك إعصارُها مدمّرا سيلقي بك، وبأشباهك على الشارع، ويعود طائر الفنيق إلى رماده من جديد: قال تعالى: [أتى أمر الله فلا تَسْتعجلوه]. فظُلمكُم سينعكس عليكم، وسُحْتُكم سيشهد ضدّكم لا محالة، وصدق [ابن خلدون]: [الظلم منذر بخراب العمران] ولن نسمح أبدا بظلم يخرّب عمراننا، وينسف ملَكيتَنا، ويمسّ بديننا، ويشقي البلاد والعباد..