د.إدريس الكنبوري.
في كل مرة تعود قضية الإرث والمساواة بين الأنثى والذكر إلى الواجهة في المغرب، ويراد لها أن تتصدر قائمة انشغالات الرأي العام، إذ تُرفق بكثير من الضجيج والجدل والإثارة، ما يثير ردود فعل من كل الاتجاهات، ويتحول الأمر إلى المساس بالمقدسات الدينية من طرف، وبالأعراض من الطرف المقابل.
وفي ظل مناخ كهذا يصبح من الصعب اتخاذ موقف متوازن بين الطرفين، إذ الطابع العام هو التهارج والتهارش والتناوش، وهو وضع شبيه بذلك الذي وصفه الفيلسوف البريطاني إدموند بورغ بعد أسابيع من الثورة الفرنسية حين قال: "لقد حصل حدث من الصعب الكلام فيه، لكن من المستحيل السكوت عليه".
وما يزيد الأمور تعقيدا أن البعض ـ وهذا هو الواقع ـ لا ينطلق في إثارة مثل هذه القضايا من دوافع "الإصلاح" غيرة على الناس ودينهم، وبدافع الضمير، بل ينطلق من الرغبة في تفتيت القيم المشتركة والتشكيك فيها، ومنهم من يؤدي واجبا تجاه جهة معينة لإظهار شجاعته في أداء خدمة يتلقى عليها مقابلا.
وليس المقابل ماديا بالضرورة لدى الجميع، إذ هناك فئة تكتفي بالمقابل "الإيديولوجي"، أي الطموح إلى إشباع قناعة معينة والنيل من منظومة أفكار يرى فيها خصمه.
ليست قضية المساواة في الإرث بالجديدة، فقد ظلت تطرح باستمرار منذ فجر الاستقلال في العالم العربي والإسلامي، كفرع عن أطروحة عامة تقول إن الإسلام ظلم المرأة. وبدل التوجه مباشرة إلى أصل المشكلة، وهو الثقافة السائدة لدى العرب والمسلمين وآليات إنتاج التخلف، يتم إلقاء اللوم على الإسلام لاتهام النصوص الدينية.
ولست في حاجة إلى القول إن أطروحة نقد التراث ـ التي شاعت منذ الستينيات من القرن الماضي لدى اليسار العربي ـ تبنت بطريقة غير واعية هذه الأطروحة، بمعنى أنها كانت تنطلق من أن المشكلة موجودة في النصوص لا في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولذلك ضخمت من الماضي على حساب الحاضر، وأحلت النقد الثقافي محل النقد السياسي المطلوب.
ولسوء الحظ أن مسألة تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة ـ بالمفاهيم الأوروبية التي تؤمن بالمضمون الذري للفرد لا بالمكون الأسري ـ ارتبطت في الذاكرة الجمعية العربية بأسوأ ذكرى.
لقد كان الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، رائدُ هذه الأطروحة في تونس، أول رئيس عربي يقتحم هذا الباب في مرحلة مبكرة عندما وضع قانونا جديدا للأسرة التونسية.
ولكن بورقيبة لم ينطلق من قناعة بفعل الخير لصالح المرأة التونسية، أو من قناعة مفادها الاجتهاد لوجه الله، بل انطلق من كونه يريد استهداف الإسلام لأداء مهمة مطلوبة منه من فرنسا.
فليس هناك شخص عاقل يفهم ما العلاقة بين تغيير قانون الأسرة بدعوى "الاجتهاد"، وبين الذهاب إلى التلفزيون وشرب العصير أمام المشاهدين التونسيين في شهر رمضان. هذا ما فعله بورقيبة، الذي كان يريد أن يثبت شجاعته في أداء الخدمة المطلوبة من فرنسا.
هذا مثال تاريخي معروف، وقد صار اليوم للأسف شاهدا على أن رفع شعارات الإصلاح الديني أو "الاجتهاد" أو التفكير "المقاصدي" قد تكون وراءه مخططات مقصودة يتم التستر عليها بمصطلحات تلقى القبول. وصحيح أن بعض دعاة الإصلاح والتجديد لا يشربون العصير اليوم في التلفزيون في شهر رمضان كما فعل بورقيبة، ولكن بعضهم يفعل ذلك في الخفاء.
ورغم أن نصوص الميراث في القرآن الكريم هي نصوص قطعية لا تقبل الاجتهاد، إلا أن هذا لم يحل دون أن يجتهد علماء النوازل لإحقاق الحقوق للنساء وعدم هضمها. وقد اشتهر العمل السوسي بهذا النوع من الاجتهاد الذي أعطى المرأة ما سمي "حق الكد والشقا" أو السعاية. وقد نظم ذلك عبد الرحمان الفاسي قائلا:
وخدمة النساء في البوادي
للزرع بالدراس والحصاد
قال ابن عرضون لهن قسمة
على التساوي بحساب الخدمة
لكن أهل فاس فيها خالفوا
قالوا لهم في ذلك عرف يُعرف.
ولكن هذا الحق لم يكن عن اجتهاد في النص، بمعنى أنه لم يعط المرأة أكثر من نصيبها المستحق لها في الشريعة، ولكنه كان زيادة بعد استيفاء ذوي الحقوق حقوقهم، وهذا عكس ما يقوله البعض ممن يتخذ ذلك ذريعة للقول بالاجتهاد في النص القطعي. والمطلوب أن تتم الاستفادة من هذه التجربة من لدن العلماء والمشرعين في إطار تطوير الفقه، لا في إطار تطويع النص الثابت.
تنطلق المطالبة بتغيير منظومة الإرث من مقولة مفادها تحقيق العدل. وواضح أن مثل هذا الكلام فيه اتهام صريح للنصوص القرآنية التي قررت تلك الفروض بأنها لا توفر عدلا لبعض الورثة. ولكن التأمل في المسألة يقودنا إلى إدراك الإخلال بالعدل في هذه المقولة؛ ذلك أن أي مساس بنصيب واحد من أصحاب الفروض سوف يؤدي بالنتيجة إلى اختلال في أنصبة الآخرين، وهكذا تنهار منظومة بكاملها بمجرد الرغبة في تحقيق "العدل" لطرف واحد، إذ نظام المواريث بمثابة "بنية" إذا تحركت حلقة واحدة تبعتها سائر الحلقات.
بيد أن مفهوم العدل ليس مفهوما مستقرا، فهو يتغير حسب المكان والزمان والثقافة المجتمعية؛ فما يراه شخص عدلا لا يراه الآخر كذلك بالضرورة، نظرا لأن كل واحد منهما يقف في زاوية مقابلة للطرف الآخر ولديهما مصالح متناقضة. وليس العدل في القضاء مثلا أن يحصل كل شخص على ما يراه حقا له، بل هو أن يحصل كل شخص على حق يضمنه له القانون؛ فالتطابق بين الحكم والنص القانوني هو الذي يمنح مصدرية العدل وليس فهم الأشخاص. وإذا كان هناك اتفاق على أن القرآن الكريم نص موحى به ومرجعي فإن العدل في الميراث ليس أن يأخذ كل وارث ما يحتاجه، بل ما يعطيه إياه النص.
لكن المسألة الأهم أن وظيفة الإرث في الإسلام ليست "صناعة" الثروة، بل "تفكيك" الثروة. أما صناعة الثروة بالنسبة للفرد والجماعة فهي مهمة الدولة؛ فما يكسبه الوارث ليس نتاج عمله، بل نتاج عمل الميت، يصبح حقا له هبة من الشارع الحكيم بسبب نوع من أنواع القرابة. ولذلك فإن المطلب الأساسي ليس التساوي في الإرث، بل التساوي في الفرص أمام المواطنين لخلق الثروة الذاتية لا الثروة المجلوبة من الإرث، إذ ليست منظومة الإرث هي المسؤولة عن الفقر، بل المسؤول عنه التقسيم الاجتماعي للعمل، ونظام التفاوت الطبقي أو الفئوي.
إن الذين يطرحون قضية الإرث من هذه الزاوية ويسائلون منظومته يتهربون من مواجهة الوقائع السياسية والاجتماعية، ويحاولون استبدال مطلب المساواة في الإرث بمطلب العدالة الاجتماعية والاقتصادية. كيف يمكن أن نجعل المواطن يرضى بالفقر والبطالة ثلاثين أو أربعين عاما في انتظار أن يرث بعد وفاة قريبه ما يعود عليه بالكرامة؟ هل يعقل أن نرى شخصا تضيع زهرة عمره في الفقر لكي ينعم بعد فوات الأوان وفناء الصحة بتركة قد لا تعود عليه بالنفع؟ كيف نجعل حياة الإنسان رخيصة إلى هذا الحد، ومعلقة بذلك اليوم الذي يرث فيه؟. من المؤسف أن نرى في بلادنا عددا من السياسيين يلتحقون بهذا المطلب بدعوى المساواة، بينما هم يشتغلون في الحقل السياسي المفترض فيه أن يكون قاطرة للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي ومحاربة التفاوت بين الفئات وتحقيق الكرامة للمواطنين. كيف يمكن فهم هذه المفارقة الخطيرة في مجتمعنا، مفارقة أن رجل سياسة يعجز عن تحقيق العدل بالسياسة ويريد تحقيقه بالدين؟ إن المشكلة ليست في منظومة الإرث، ولا في الدين، بل المشكلة الكبرى توجد في السياسة.