وهكذا، كانت الحملة الانتخابية على أشدِّها، وكانت الوعود تجود بها سماءٌ لا تمطر، تتغنّى بها الأحزابُ السياسية ما أجرى الله يومًا خيرا على أيديها لهذا الوطن الذي صار بستانا خصبا لكائنات ناهمة، وضمائر نائمة، وأنفُس على الدّوام حالمة بامتيازات هائلة، وصلوها بفضل أصوات مواطنين جعلَت البرلمانيين يعيشون حياةً سعيدة، وأحوالا رغيدة، فيما وعود البرلماني للمواطن، بقيتْ بعيدة، وكلّما ذكّروهم بما وعدوهم به، جعلوا أصابعَهم في آذانهم، وتغامزوا في ما بينهم على وطن، وعلى مواطن، ورموْهما بالبلاهة، والسذاجة، حتى لإنّ من النواب مَن لا يحضر للجلسات الفارغة، فيما يُقْتطَع من قُوت المواطن بقوانين ظالمة، ومع ذلك تسمعهم يتحدّثون لذهاب حيائهم، وغياب كرامتهم، وتآكُل وطنتيهم، وابتعادهم عن الدين، ونأْيِهم عمّا يربط الفردَ بالوطنية، والأخلاق، والقيم، والشرف، فتجد النائبَ منهم لا عقْل له، ولا ضميرَ يستبطنه، بل كلّ ما فيه أمعاء، ومصارين، ومعدة، فإذا كنّا نريد محاربة الفساد، والتبذير، والمظالم، والكذب، فلا بدّ من محو مصدر كل هذه الآثام، ولا بدّ من البدء بالبرلمان بغرفتيْه، وإخلاء القبّتيْن من أتباع (مُسيْلمة الكذّاب)، فلو بحثْتَ في بطون مجلّدات تراث هذا البرلمان، لما وجدتَ حقّا أُقِرّ، أو ظلمًا رُفِع، أو حيفًا أزيح عن كاهل الشعب؛ وبالجملة لما عثرتَ على محطة تتلألأ منارة مشرقة في مسار هذا البرلمان، بل ستعثر على أشياء، هي من الغرابة بمكان، يتقاضى البرلماني مقابلها أبهظَ الأثمان..
في سنة (1996) قام البرلمانيون بالدفاع عن الخنزير، وطالبوا بالحفاظ عليه، وكتبتُ آنذاك مقالة في الموضوع، وتساءلتُ إن كان المواطنون هم الذين صوّتوا أمِ الخنازير القذِرة؟ وتكاثرت الخنازيرُ حتى أصبحتْ تُتلِف المزروعات، وتهدّد الأنعام، وتهاجم بيوتَ الأنام ليلا، واضطرّت الدولة لمحاربة الخنزير بالأسلحة النارية اليوم على امتداد ربوع الوطن.. وما زلتُ أذكر سنة (2002) حين تظاهر المعطّلون أمام البرلمان، رافعين شهاداتهم العليا، فكُسِّرت ضلوعهم، وهشِّمت رؤوسُهم، وكان المشهد مادّةً دسمة لكل وسائل الإعلام الغربية؛ ولكنْ في اليوم التالي، احتشدت الخنازيرُ البشرية يعني (الشواذ) أمام البرلمان، وفي المكان نفسه، فأُخِذوا باللّين، وبشكل حضاري، واستُدعيَ زعماؤُهم للحوار في مقهى توجد مباشرةً أمام القبّة، بعدها فُضَّ الاعتصام بلا عنف، ولا خصام؛ كتبتُ إثرها مقالاً تساءلتُ فيه: كيف بُهْدِل الإنسان، وكُرِّم الخنزيرُ أمام البرلمان يا سبحان الله! وها هم الشواذ، يتحرّكون اليوم، ويتحدث مساندوهم علانيةً، دون اعتبار لمشاعر المواطنين، ودون شجْب أو صدور بيان من البرلمان، وكأنّ (الشواذ) هم من أوصلوهم إلى ذلك المكان؛ ثم للبلاد مشاكل في الداخل تتعلق بالأوضاع الاجتماعية؛ ومشاكل في الخارج تتعلق بالقضية الوطنية، وبخصوم وحدتنا الترابية، والبرلمانيون يناضلون من أجل الإبقاء على تعدّد التعويضات، واستمرار الامتيازات، وتفادي العقوبات عن التّغيبات أو المخالفات؛ والآن يدافعون عن التقاعد، وكأنّ صفة نائب صارت مهنة تتطلب (30 إلى 40) سنة عمل متواصل بعدما صوّتوا على ضرب تقاعد الكادحين، ويناضلون الآن من أجل تقاعُد الباذخين، ولا أحد ردعهم، أو منعهم، أو عرقل ما يهدفون إليه دون حياء، لأكل أموال الأمّة باطلا وسحتا.. لقد كان من العدل، والعقلِ، حلّ القبّتيْن، بعد أحداث [الحسيمة، وجرادة، والجنوب] فورًا، وأن يصبح لكل إقليم، ممثلٌ واحدٌ، بدلاً من هذا الغُثاء، بل الجراد المقيم، الذي جنا على البلاد والعباد..
في هذا البرلمان شاهدْنا كل أنواع الآثام، وكتبْنا فيها مقالات.. والآن، يوجد في القبة، متهمٌ بالقتل، ويتهرب من المثول أمام قاضي التحقيق؛ فأي برلمان هذا الذي يُرْجى خيرُه، وقد فضحه الله عزّ وجلّ! أما العيوب الأخرى، فقد صارحهم بها جلالة الملك نصره الله، في عقر دارهم، وعدّدها، ووصفها، وصنّفها، ولكنْ لا حياة لمن تنادي.. وأكبر وأفظع موبقة هي ضربُ تقاعُد العمّال، والموظّفين، والجنود، والشرطة، وكل خدّام الوطن بأجسادهم، وحيواتهم، وفي الأخير سيُنْسَوْن بلا سند، ولا مدد، في شيخوختهم، وكأنهم -بغال البلدية- عندما تعجز عن جر عربة النفايات، فتباع لأصحاب حدائق الحيوانات، وأصحاب السيرك، لتأكلها السباع، والضباع، والنمور؛ هذا ما حقّقه البرلمان للمواطن في هذا البلد الذي تناسلتْ مشاكله، وتنوّعتْ مظالـمُه، وكثرت فيه الأكاذيب، وفشا النفاق، وهو أفظع من الكفر والردة.. يحدث هذا والمواطنون يترقّبون قرارا حاسما، وموقفا صارما للضرب على أيدي الظّلَمة، والانتهازيين المتحزّبين، وأعني برلمانيين آثمين، يأكلون أموالنا باطلا، ويتخوّضون في حقوقنا، وبسياستهم يلقّنون الأجيال كراهية الأوطان، تمشّيًا مع وصايا المنظمات الهدّامة؛ ثم يدّعون الوطنية كذبًا وبهتانًا، فيما ضالّتُهم النفعية؛ ولكنْ في النفعية أقوال شتّى، نخوض فيها غدًا إن شاء الله تعالى!
صاحب المقال : فارس محمد